دراساتصحيفة البعث

أزمة الديون الوطنية في أمريكا

ترجمة: هناء شروف

منذ أكثر من 33 عاماً تمّ تركيب شاشة عرض كاملة بحجم لوحة الإعلانات على مقربة من “ساحة التايمز” في مدينة نيويورك لتذكير المارة بحجم الأموال التي اقترضتها الحكومة الفيدرالية الأمريكية من الجمهور ولم تسدّدها بعد.

ومع ذلك، فإن هذه الحصيلة المعروفة باسم “ساعة الديون الوطنية”،لا يبدو أنها تزعج الحكومات الأمريكية المتعاقبة، بما في ذلك الإدارة الحالية، وقد بلغت 31.1 تريليون دولار أمريكي لأول مرة في 3 تشرين الأول الجاري، ولا تزال تتدفع بجنون.

وقد أثر تضخم الدين الوطني الذي يقترب من السقف القانوني البالغ 31.4 تريليون دولار، على قدرة الحكومة على الاقتراض، وأثار المخاوف بشأن الاستدامة المالية للولايات المتحدة وتأثيراتها السلبية غير المباشرة على الأسواق المالية العالمية.

سجل مثير للاشمئزاز 

وبلغ إجمالي الدين العام المستحق 31.1 تريليون دولار في 3 تشرين الأول الحالي، بما في ذلك 24.3 تريليون دولار ديون للجمهور، و6.8 تريليون دولار أصول حكومية دولية، حسب ما جاء في بيان الخزانة اليومي الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية في 4 تشرين الأول.

في الواقع، أظهرت البيانات الآنية الصادرة عن الموقع الرسمي لـ”ناشيونال ديبت كلوك” أن رقم الدين يصل إلى أكثر من 93.400 دولار لكل مواطن أمريكي، وما يقرب من 250.000 دولار لكل مواطن أمريكي دافع للضرائب. وأظهرت البيانات أنه بالنظر إلى الرقم القياسي الجديد، ارتفعت نسبة الدين الفيدرالي الأمريكي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقرب من 126٪.

كما أظهر تقدير من قبل وسائل الإعلام المالية البريطانية “فينبولد” أنه، في عام 2022 وحده، نما الدين القومي للولايات المتحدة بما يقرب من 6 مليارات دولار يومياً. وأشارت مؤسسة “بيتر جي بيترسون”  في مقال نُشر الأسبوع الماضي إلى أن الرقم يتجاوز قيمة اقتصادات الصين واليابان وألمانيا وبريطانيا مجتمعة. وأشار المقال إلى أنه إذا دفعت كل أسرة أمريكية 1000 دولار شهرياً فسيستغرق سداد الدين 19 عاماً، حيث قالت مايا ماك غينيس، رئيسة مجموعة مراقبة الميزانية: “هذا رقم قياسي جديد لا ينبغي لأحد أن يفخر به”.

ومنذ حوالي ثمانية أشهر، تجاوز إجمالي الدين العام الأمريكي المستحق 30 تريليون دولار، محققاً علامة فارقة في المالية العامة. وفي محاولة لتجنّب التخلف عن سداد الديون الذي يلوح في الأفق، أقرّ الكونغرس الأمريكي تشريعاً لرفع حدّ الدين إلى 31.4 تريليون دولار حالياً. ومع ذلك فشلت الزيادة في وقف الديون الوطنية الأمريكية من الوصول إلى مستويات الرعاف.

وقالت ماك غينيس: “إن الكثير من الاقتراض الجديد كان ضرورياً لمكافحة الوباء، وقد حان الوقت لوضع ميزانية مسؤولة.. مع ذلك ما زلنا نقترض”.

مدمن الديون

قال صندوق مكافحة الجائحة: “أدت جائحة الفيروس التاجي إلى تسريع تحدياتنا المالية بسرعة، لكننا كنا بالفعل على مسار غير مستدام  مع وجود محركات هيكلية قبل الوباء بوقت طويل”.

كما أكد الصندوق أن الولايات المتحدة اقترضت على مدى العقود الماضية، حيث ارتفع إجمالي ديونها من 3.2 تريليون دولار في عام 1990 إلى 5.62 تريليون دولار في عام 2000، ثم إلى 13.56 تريليون دولار في عام 2010. وبلغ إجمالي ديون البلاد 27.72 تريليون دولار في عام 2020، وتجاوز 30 تريليون دولار في أواخر كانون الثاني الماضي، حيث ذهب جزء كبير من إجمالي الإنفاق الفيدرالي إلى ميزانية الدفاع القومي الأمريكية.

وأظهر مقال نشرته مؤسسة “بيتر جي بيترسون”، في أوائل أيار الماضي، أن الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة يمثل أكثر من 10 في المائة من إجمالي الإنفاق الفيدرالي، وظل رقم 1 في العالم لسنوات.

وأشارت منظمة أمريكية غير ربحية تُدعى “أب تو أس”، في مقال نُشر في عام 2020، إلى أن الدين القومي الأمريكي وصل إلى مستوى 1 تريليون لأول مرة في التاريخ بحلول عام 1982 بعد حرب فيتنام والحرب الباردة، وأنه بحلول القرن الحادي والعشرين وصل الدين الوطني إلى 20 تريليون دولار بعد أحداث كبرى مثل الحرب على الإرهاب.

إضافة إلى الإنفاق الكبير على الحروب التي لا نهاية لها، هناك حزم التحفيز الهائلة، وجولات التخفيضات الضريبية، وكذلك الانعكاس المفاجئ للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لإستراتيجيته النقدية من سياسة “التيسير الكمي” على مدى سنوات إلى سياسة أكثر إحكاماً.

في كانون الأول 2020، وقع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على حزمة إنفاق بقيمة 2.3 تريليون دولار، وفي عام 2022 وحده وافق الكونغرس والرئيس جو بايدن على اقتراض جديد بقيمة 1.9 تريليون دولار، ووافق بايدن على 4.9 تريليون دولار في عجز جديد منذ توليه منصبه. ولمنع الحكومة من التقصير في الوفاء بالتزاماتها القانونية، يصرف الكونغرس الأمريكي 78 مرة منفصلة لرفع تعريف حدّ الدين بشكل دائم أو تمديده مؤقتاً أو مراجعته منذ عام 1960، حسب ما أشارت وزارة الخزانة.

قنبلة موقوتة

غرد مراسل التلفزيون الأمريكي جون ستوسيل بعد يومين من وصول الدين القومي للولايات المتحدة إلى الرقم القياسي الجديد: “إذا لم نخفض الإنفاق فستحدث كارثة”. وهذا كلام دقيق، لأن الاقتراض الأمريكي المتسارع  إذا لم تتم إدارته بشكل صحيح، سيكون كوابيس لكل من الولايات المتحدة والعالم.

وفي تقرير صدر في أيار الماضي حذّر مكتب الميزانية في الكونغرس من أن مسار الديون من شأنه أن يرفع تكاليف الاقتراض للقطاع الخاص، ما سيؤدي إلى انخفاض الاستثمار التجاري، وإبطاء نمو الناتج الاقتصادي بمرور الوقت.

ولجعل الأمور أسوأ، وبما أن بنك الاحتياطي الفيدرالي مصمّم على الاستمرار في رفع أسعار الفائدة لترويض التضخم، سيتعيّن على حكومة الولايات المتحدة أن تدفع المزيد مقابل اقتراضها الضخم. فقد أشار صندوق مكافحة الجائحة في مقال نُشر في أيلول الماضي إلى أن مدفوعات الفائدة ستبلغ حوالي 66 تريليون دولار على مدى الثلاثين عاماً القادمة، وستستحوذ على ما يقرب من 40 في المائة من إجمالي الإيرادات الفيدرالية بحلول عام 2052، وستصبح تكاليف الفائدة أيضاً أكبر برنامج على مدار العام.

وقد أشار رأي في صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن الفائدة على الدين القومي آخذة في الانفجار، وتتجه نحو ما يشير إليه الاقتصاديون على أنه “حلقة الهلاك”، وهي الحلقة المفرغة التي يولد فيها اقتراض الحكومة لدفع الفوائد المزيد من الفوائد والمزيد من الاقتراض.

في غضون ذلك، إذا تخلفت الحكومة الأمريكية عن سداد فواتيرها وسط خلافات حزبية مريرة فإنها ستفجر قنبلة في وسط النظام المالي العالمي. وذهب مقال “صوت أمريكا” إلى توضيح أن التخلف عن سداد ديون الولايات المتحدة من شأنه أن يتردّد صداه من خلال الاقتصاد العالمي، ومن خلال الحدّ من التجارة العالمية، وجعل الاقتصادات التي تعتمد على الدولار تعاني من التأثير على العقود التجارية، ومن تآكل وضع العملة الاحتياطية العالمية للدولار.

في عام 2011، أشعلت أزمة سقف الديون الأمريكية أكثر الأسابيع تقلباً في الأسواق المالية منذ عام 2008، مع اتجاه سوق الأسهم نحو الانخفاض بشكل كبير، كما أدى إلى خفض التصنيف الائتماني الأول للبلاد في التاريخ. كذلك في العام الماضي عندما خاطرت الحكومة بالتخلف عن سداد الديون مرة أخرى، انخفضت أسعار الأسهم بنسبة 33 في المائة، فهل تتخلف الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها المالية؟.