مجلة البعث الأسبوعية

أسعار جديدة كل يوم .. إجراءات وقتية أفرغت جيوب المواطن وبحث عن بدائل “بالسراج والفتيلة”

البعث الأسبوعية- ميس بركات

لم تمر الأسابيع الأخيرة مرور الكرام على المواطنين ممن فقدوا مخزونهم المادي والنفسي والجسدي أمام الصفعات المتتالية التي استنزفت قواهم ولم يعد لهم حول ولا قوة سوى الاستسلام لما ستسوقه إليهم قرارات الحكومة “الارتجالية”، ففي الوقت الذي ارتفع فيه سعر الدولار فُقدت الكثير من السلع من الأسواق واحتُكر البعض الآخر منها على مرآة من الجهات المعنية التي وجهت إنذاراتها وأطلقت دورياتها وطبعت ضبوطها الإعلامية لمحال وتجار لم يرد ذكرهم علناً على صفحات الأخبار عسى ولعلّ يكونوا عبرة لغيرهم ويتنفس المواطنون الصعداء بانفراج همومهم وتوفر السلع بأسعار مقبولة، بيد أن تغيير الحال على ما يبدو بات من المحال ومن المعجزات التي لن تتحقق في القريب العاجل..

طرق ملتوية

ارتفاع الأسعار بآلاف الليرات بين ليلة وضحاها أفرغ جيوب المواطنين من رواتبهم الهزيلة بأقل من 48 ساعة مع كثير من “التقشف”، لينطلقوا إلى حلقات البحث عن طرق لإكمال الشهر العسير، الأمر الذي لم يُخفه صاغة الذهب ممن أكدوا ازدياد عدد المواطنين ممن أرادوا بيع مدخراتهم “الذهبية” البسيطة والتي لا يتجاوز سعرها في الكثير من الأحيان الـ 500 ألف للقطعة “لتمريق الشهر عخير”، على أمل إيجاد مخرج للشهر الذي يليه ويليه، في حين امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع التسويق ببيع أثاث المنازل المستعمل من الكهربائيات وصولاً إلى الأغطية و”الطناجر” التي كان لها النصيب الأكبر من عمليات البيع، أما الفئة الأخيرة ممن لا مدّخرات ذهبية ولا أثاث لهم فكانت السرقة الباب السريع السهل أمامهم لتكثر سرقة المنازل خلال الآونة الأخيرة لاسيّما في مناطق السكن غير النظامي حتى في وضح النهار، ناهيك عن سرقة الدراجات النارية والهوائية، بحسب ما أكد أحد عناصر مخفر ضاحية الأسد بقيام الكثير من الشباب الذين لم يتجاوزا الثامنة عشر من عمرهم بعمليات السرقة من المناطق المحيطة بالضاحية، كذلك الأمر في باقي المناطق نتيجة العوز واستسهال الحصول على المال بهذه الطريقة الإجرامية، لتشكل هذه الفئة الشابة أكثر من 70% من أصحاب السرقات.

للنساء نصيب

حالة الخناق الحاصلة في الآونة الأخيرة فتحت أبواب البحث عن مصادر رزق”بالسراج والفتيلة” لتخلق الأزمة عشرات الأساليب التي تدر المال ليسند الراتب الحكومي وحتى الخاص، فقلّما نسمع اليوم عن وجود امرأة عاطلة عن العمل، إذ لم يعد العمل بالنسبة للمرأة مقتصراً على الوظيفة الحكومية التي لطالما كانت مصدر الآمان والرزق لها، بل بات العمل للفتيات في شتى مجالات الحياة من الوقوف خلف الآلات في المعامل وفي محال بيع الألبسة وفي المطاعم لصنع الوجبات وتقديمها أيضاً أمراً عادياً في مجتمعنا، ناهيك عن توجه الكثيرات ممن لا يملكون “صنعة” إلى شراء أدوات منزلية بسيطة بكميات قليلة والتسويق لها عبر “الواتس” مثلاً ضمن الحارة الواحدة بهيئة محل تجاري بسيط الكترونياً لتوفير أجرة المحل مع البقاء في المنزل وتحصيل بضع الآلاف شهرياً، وقيام الكثيرات بتصنيع المواد الغذائية “المونة” البسيطة في المنازل وبيعها بأسعار مقاربة للتكلفة الحقيقية للطبقات القادرة على الدفع وشراء هذه المواد.

تقاذف التهم

وعلى الرغم من تقديم الاقتصاديين لحلولهم النظرية على طاولات الجهات المعنية للخروج من هذه المحنة بسلام وبأقل خسائر ممكنة إلّا أن أصحاب الشأن يجدون أن التنظير”سهل” على أساتذة الجامعة ومن ليسوا صنّاع قرار، ففي الوقت الذي وجد فيه محمد الحلاق أمين سر غرفة تجارة دمشق عدم جدوى الأخذ بآراء من ليسوا بصلب العملية الإنتاجية والتسعيرية، لاسيّما وأن تدفق وانسياب السلع في الأسواق تحكمه عدة عوامل لا علاقة للتاجر بالكثير منها، إلّا أن التاجر هو المتهم الأول والأخير بعيون المواطنين، في حين هناك عشرات الحلول لخفض الأسعار التي تغفل عنها الجهات المعنية والتي يأتي بمقدمتها تخفيض جزء من الرسوم الجمركية التي ستخفف العبء على التجار وسيلمس نتائجها بشكل مباشر المستهلك، وكان للخبير الاقتصادي اسماعيل مهنا  رأيه بأن ارتفاع سعر الدولار ولعبة الاحتكار والتخزين هي من أودت المواطنين لبيع ما بقي من مدخراتهم أو اللجوء إلى أساليب ملتوية في الكثير من الأحيان للحصول على المال منها السرقة أو طلب الموظف الحكومي “للإكرامية” بشكل علني، إضافة إلى لجوء الأكثرية الساحقة من النساء للعمل بمهن شاقة وأعمال لا خبرة لهن بها، إذ بات يشكل ارتفاع سعر الدولار أزمة نفسية بالنسبة للمواطن  لاسيّما مع عدم تدخل المصرف المركزي السريع والجذري بسعر الصرف الأمر الذي خلق حالة من عدم الثقة به عند المواطنين وأن المتحكم بالسوق هم تجار العملة، إضافة إلى أن المسؤولين عن سعر الصرف لم يقدموا تطمينات حقيقية بل على العكس يتم الإعلان عنها في وسائل الإعلام لكن لا ظهور لنتائج ملموسة وهذا ما زاد عدم الثقة بالعملة الوطنية، كما أن عدم زيادة الرواتب لفترة طويلة أعطى الشعور بعدم وجود مال في خزينة الدولة وهذا ما كان يؤكده المسؤولون في تصريحاتهم، ناهيك عن عدم وجود اقتصاد فعال يغطي حاجة السوق أدى لتخوّف دائم عند التجار من ارتفاع سعر الدولار بالتالي قيامهم برفع الأسعار بشكل تدريجي.

إجراءات وقتية

كذلك لم يعد الحديث عن زيادة الأجور والرواتب الشغل الشاغل للمواطن الذي سئم من هذه الزيادات خاصّة وأنه مع مطلع كل زيادة  يواجه موجة عاتية من ارتفاعات الأسعار تطيح بكل الزيادة وتفوقها قيمة وقدراً، فالمسألة برمتها اليوم تحتاج للمزيد من الجدية في التعامل مع قضايا التسعيرة وضبط الأسواق، إضافة إلى ضرورة حضور المصرف المركزي كلاعب وحيد متحكم بسعر الصرف، لكن ما يجري حسب رأي الخبير الاقتصادي عامر شهدا هو أن عدم  قدرة البنك المركزي على التحكم بالأسعار يعود لعدم استطاعته بالمشاركة بتثبيت الأسعار في السوق، فالحكومة اليوم ممثلة بوزارة التجارة الداخلية هي التي ترفع الأسعار، خاصّة وأنها قامت خلال هذا الشهر برفع الأسعار من 20-25%، بالتالي عندما تُقر الوزارة برفع الأسعار وزيادة التضخم  لن يتمكن المصرف المركزي من ضبط سعر الصرف، أما بالنسبة للعقوبات التي أعلنتها الوزارة لمصادرة البضائع التي تخالف الأسعار لفت شهدا أن هذا الاقتراح عائد له منذ أكثر من عام، إضافة إلى مقترح مصادرة وبيع المواد المخالفة بسعرها المحدد وإحالة المخالف للحبس، وطرح الخبير الاقتصادي مثالاً عن الخطأ الذي يحدث بالضبوط المخالفة كإغلاق الفرن أو محطة الوقود وإضرار الحي بكامله بدلاً من احضار عمال من الأفران الاحتياطية مثلاً لتشغيل الفرن أو المحطة مع إحالة المخالفين للسجن، مشيراً إلى أن أي إجراء تتخذه الحكومة اليوم من أجل ضبط الأسعار إذا ما انعكس بشكل إيجابي على موضوع التضخم وعلى موضوع رفع القدرة على الاستهلاك هو إجراء وقتي مرحلي وليس حل، ويكمن الحل بإستراتيجية كاملة ومتناغمة ما بين السياسية النقدية والمالية والاقتصادية.

الخروج من عنق الزجاجة

وفيما يتعلق بالحلول للخروج من عنق الزجاجة اليوم بيّن شهدا أن رفع الرواتب تساعد كثيراً في حال كان هناك ضبط حقيقي للأسعار ودراسة حقيقية للتسعير فتسريع الاستهلاك يرفع من نسبة المنافسة بالتالي المنافسة ستؤدي إلى هبوط الأسعار، خاصّة وأن رفع الأسعار اليوم يكون دون دفع عجلة الاستهلاك، هذا ما أوصنا إلى ركود تضخمي عواقبه سيئة على الاقتصاد، مشيراً إلى المعادلة القائلة بأن البلد النشيط اقتصادياً هو نشيط استهلاكياً، بالتالي النشاط الاستهلاكي يرجع إلى رفع قدرة الدخل على الاستهلاك وتوفير المال للمواطن، ولم ينكر شهدا أن رفع الرواتب سيزيد حتماً التضخم، لكنه لن يستمر طويلاً لاسيّما عندما ينشط السوق الذي سيؤدي إلى تراجع التضخم بشكل متدرج نتيجة ارتفاع الإنتاج.