“النووي” ليس فقط لشيطنة روسيا.. بل لإنهاء العالم
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
يقف العالم الآن على مسافة 60 عاماً تماماً من أزمة الكاريبي، ويبدو أن هناك مشهداً مشابهاً لذلك المشهد، مع اختلاف بسيط يتعلّق ربما بوجود إدارة أمريكية واعية في ذلك الوقت وقادرة على اتخاذ القرار، بينما يتسيّد المشهد الآن رئيس أوكراني لا يملك القرار فعلياً، حيث تقوم الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي “ناتو” باستخدامه لاستفزاز روسيا مجدّداً بالنيابة عنهما، وهذا الأمر يمكن أن يقود في النهاية إلى استفزاز نووي غير محسوب العواقب.
في موازاة هذا المشهد القاتم نجد أن القارة الأوروبية بأكملها تعيش حالة من التنويم المغناطيسي تمنعها من حساب العواقب، حيث لا تملك الدول الأوروبية القدرة على حماية مصالحها لأنها سلّمت زمام المبادرة بالكامل إلى الإدارة الأمريكية التي بدورها لا تستطيع اتخاذ القرارات بمعزل عن الدولة العميقة التي تحرّك أحجار الشطرنج كما تريد على الأرض.
فأيّ استفزاز نووي يحدث الآن على الساحة الأوكرانية، يحدث في الحقيقة على الساحة الأوروبية، حتى لو تمكّن الأمريكي من إقناع القادة الأوروبيين أنه سيتم على نطاق ضيّق داخل الأراضي الأوكرانية، لأن آثاره الكارثية ستمتدّ حكماً وفقاً لاتجاه الريح أو لتطوّر المشهد.
وإذا فرضنا جدلاً أن واشنطن استطاعت إقناع القادة الأوروبيين بأن أيّ عمل كهذا إذا تمّ اكتشافه على وجه الحقيقة فإن مسؤوليّته بالكامل سيتم تحميلها للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي ولن يتم إلحاق تبعاته بالقادة الأوروبيين، فإن نشاط هؤلاء القادة على الأرض لا يمكن أن يبرّئ ساحتهم إذا ما حدث ذلك، لأن دعمهم المعلن والمطلق للنظام في كييف سيدخل ضمنه تلقائياً هذا النوع الذي يشمل فرضية تحريضه على الاستفزاز النووي، وقد ظهر ذلك جليّاً من خلال رفض هؤلاء القادة إدانة هذا النظام على قصفه المتكرّر محطة زابوروجيه النووية، بل تحميلهم المسؤولية لروسيا سلفاً حول ذلك.
والآن تدور أحاديث عن مصادر موثوقة بدول مختلفة بما فيها أوكرانيا، أن هناك مؤشراتٍ على إعداد نظام كييف استفزازاً باستخدام ما يسمّى “القنبلة القذرة” أو الأسلحة النووية المنخفضة لاتهام روسيا باستخدام أسلحة الدمار الشامل في مسرح العمليات الأوكراني، وبالتالي شنّ حملة قوية على روسيا في العالم بغية تقويض الثقة بموسكو.
يذكر أنه تم تكليف إدارة “المصنع الشرقي للتعدين والمعالجة” الواقع في مدينة جولتيه فودي بمقاطعة دنيبروبيتروفسك، وكذلك معهد كييف للأبحاث النووية، بصنع “قنبلة قذرة”، بالتزامن مع قيام موظفين بمكتب الرئاسة الأوكرانية من الدائرة المقرّبة للرئيس وبتوجيه منه، بإجراء اتصالات سرية مع ممثلين من بريطانيا بشأن إمكانية نقل مكوّنات أسلحة نووية إلى سلطات كييف.
ويراهن القائمون على هذا الاستفزاز على أنه إذا تم تنفيذه بنجاح، فإن معظم الدول ستردّ بشدة بالغة على “الحادث النووي” في أوكرانيا، ونتيجة ذلك ستفقد موسكو دعم العديد من شركائها الأساسيين، وسيحاول الغرب مرة أخرى إثارة قضية حرمان روسيا من وضع عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وتصعيد الخطاب المعادي لروسيا.
وقد دأب المسؤولون الروس طوال الفترة الماضية على التحذير من أن كييف تعمل على صناعة استفزاز نووي بتحريض من الغرب لاتهام روسيا بالتسبّب في ذلك، ولكن دون أن يؤدّي ذلك إلى استثارة المسؤولين الغربيين أو دفعهم إلى نفي ذلك أو التحذير من مغبّته، بل أصرّوا على تقديم جميع أشكال الدعم لنظام كييف لمنعه من التفكير في العودة إلى الحوار مع موسكو ودفعه إلى الاستمرار في الحرب.
ويبدو أن واشنطن تريد إقناع النظام في كييف بالدرجة الأولى بأن موسكو عازمة على استخدام السلاح النووي في أوكرانيا، وبالتالي يتم دفعه ضمن وضع هستيري تشكّل بدافع الخوف إلى طلب مساعدة الغرب في الحصول على هذا النوع من الأسلحة تحت عنوان “ردع روسيا”، ثم تقوم الاستخبارات الغربية المنتشرة داخل الأراضي الأوكرانية بصناعة هذا الاستفزاز على الأراضي الأوكرانية لاتهام روسيا به.
هذا الواقع أدركه المسؤولون الروس سابقاً وحذّروا من خطورته عندما أشاروا إلى أن الطرفين الفاعلين في مثل هذا القرار وهو الاستفزاز النووي، يمكن في أيّ لحظة أن يتم التبرّؤ منهما تحت عنوان عدم الأهلية، وهما الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره في كييف زيلنسكي.
ومن هنا قال المفكّر والفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين: “مدمن مخدرات، ورجل عجوز يتواصل مع الأرواح، هذه واجهة تقف وراءها القوة الحديدية للحضارة الأنغلو ساكسونية وحلف شمال الأطلسي، والغرب، والليبرالية، والعولمة”.
لذلك صرّح نائب مدير إدارة منع الانتشار وتحديد الأسلحة في الخارجية الروسية كونستانتين فورونتسوف مؤخراً، بأن موسكو لم تهدّد كييف ولا تهدّدها بأسلحة نووية، ليس لأنها عاجزة عن ذلك بالفعل أو لا تستطيع القيام به، بل لأنها ملتزمة وفقاً لمذكّرة بودابست بعدم استخدام هذه الأسلحة أو التهديد باستخدامها.
وكانت تصريحات كييف حول إمكانية مراجعة الوضع غير النووي لأوكرانيا، أثارت قلقاً شديداً في موسكو، الأمر الذي عدّته الأخيرة غير مقبول، لأنه يشير إلى تحريض غربي واضح لكييف على القيام بالمهمّة التي لا يستطيع الغرب نفسه القيام بها مباشرة.
وعندما يقول السفير الروسي لدى الولايات المتحدة، أناتولي أنطونوف: إن الدبلوماسيين والسياسيين الروس يبذلون قصارى جهدهم لمنع حرب نووية، ويصرّح في مناسبة أخرى بأنه لا ينبغي العودة إلى أزمة الصواريخ التي أجبرت الولايات المتحدة على إعادة الوضع في كوبا إلى ما كان عليه، فعلى الجميع أن يتذكر أن الحرب النووية لا يجوز أن تندلع، ولن يكون هناك منتصرٌ في نزاع نووي.
كل هذه التحذيرات الروسية ينبغي أن يتم حملها على محمل الجدّ، حيث إن مجرّد استخدام التهديد بالسلاح النووي وسيلة للضغط على روسيا، أو استخدامه بالفعل على نطاق ضيّق في أوكرانيا لاتهام روسيا لاحقاً باستخدامه، كل هذه الأمور يمكن أن تبدأ على مستوى اللعب ثم تنتهي بكارثة نووية على مستوى العالم، ولا أحد يمكن أن يتصوّر فكرة نهاية العالم في هذا التوقيت بالذات، وبالتالي ينبغي على جميع الرؤوس الحامية في الغرب أن تتحلّى بنوع من الهدوء قبل التهديد باستخدام السلاح النووي أو التفكير باستخدامه، لأن الأمر يتعلّق أوّلاً بوجود العالم الذي ينبغي أن يعيش الجميع عليه وليس فقط بأحلام الناتو التوسّعية.