نهاد قلعي: حياة على قيد الفن، وموت على قيد الخلود
تمام بركات
الحديث عن تاريخ الدراما التلفزيونية المحلية، يستوجب دائماً استحضار رموزها، أو الأسماء التي كانت قيامة الدراما التلفزيونية تحديداً، على أكتافها بما تحمل الكلمة من معنى، فرفاهية “فركش، إعادة تصوير” لم تكن موجودة مثلاً عند انطلاق البث التلفزيوني ستينات القرن، ومعظم ما تم تقديمه من أعمال درامية، تمثيليات، اسكتشات، أغاني، برامج، قُدم على الهواء مباشرة، لذا فإن الخطأ الذي يتم تصحيحيه اليوم ولعدة مرات مثلاً أثناء تصوير مشهد ما، كان يصل للجمهور مباشرة سابقاً، ما جعل المهمة أصعب على الممثلين، باعتبارهم أمام الكاميرا، ومن بين تلك الكوكبة التي شغفت القلوب، من ممثلينا الكبار، الذين وقفوا أمام الكاميرا فأبدعوا، وخلفها فأبدعوا أيضاً، كان الفنان والكاتب نهاد قلعي، الذي حلت ذكرى وفاته الـ29، منذ أيام قليلة، وعلى تلك الحياة، العامرة بالإنجاز والإبداع، نطل من “شباك” الذكرى، التي كانت وما زالت، ناقوساً يدق في عالم النسيان.
نهاد والحياة والفن
في لبنان وفي مدينة زحلة، ولد نهاد قلعي، سنة 1928، كان والده يعمل رئيساً لمصلحة البرق والبريد. عاد إلى دمشق مع أسرته في الثلاثينيات وأقاموا في جادة شورى في منطقة المهاجرين، ثم انتقلوا إلى جادة الشطّا القريبة، انتسب إلى مدرسة البخاري في المهاجرين، حيث تعلم فن الخطابة والإلقاء.
حكاية نهاد قلعي مع الفن، مرت في محطات مختلفة، وفي كل محطة منها، كان صاحبنا يكتسب من خبراتها، عاجنا إياها في شخصيته، التي طمحت للفن، وسارت في طريقه، حتى بلغت مبلغ التمكن منه، رغم ما نبت له فيها من مختلف ضروب الصعوبات الموصوفة بالغرابة والقسوة.
موهبة التمثيل، ظهرت مبكراً عند نهاد قلعي، وفي مدرسة “البخاري” الابتدائية، بدأ قلعي، أولى خطواته العملية في عالم الفن، بعد أن قام الفنان “وصفي المالح” بإعطائه دوراً صغيراً في مسرحية “مجنون ليلى” ومن هنا بدأت إطلالة الفتى على عوالم المسرح والأدب العربي، ناهلاً بداية من صنوفه، وبشكل خاص “القصة” ومن ثم قام بتوسيع عوالمه الفكرية، من خلال توسيع بيكار مطالعته النهمة للأدب العالمي، ولعل هذه الفترة كانت الأهم في حياته، ككاتب أولاً، وهذا ما سينعكس جلياً وواضحاً في نتاجه كمؤلف درامي فيما بعد، بعد أن اكسبته عادة القراءة، موهبة فذة في الكتابة والتأليف والتقاط الأفكار الأجمل في الأدب العالمي، للاتكاء عليها في صنع عمل درامي تلفزيوني، بقالب حكائي، يحمل كل العناصر التي يجب أن تتوفر في هذا الفن الصعب.
بعد نهاية دراسته الجامعية، اعتزم السفر إلى القاهر لدراسة التمثيل في معهدها الشهير، وقبل سفره بأيام تعرض لسرقة نقوده مما أجبره على ترك السفر والعمل في دمشق، حيث عمل مراقباً في معمل للمعكرونة ثم ضارباً للآلة الكاتبة في الجامعة، ونقل بعد ست سنوات من العمل إلى وزارة الدفاع، واستقال بعدها ليعمل مساعداً لمخلص جمركي، طوال خمس سنوات إلى أن عمل لحسابه الخاص، ثم التحق بحلم حياته، والتحم معه، فقدم فناً راقياً، مختلفاً، احترم فيه الجمهور، فبادله جمهوره بتخليده لذكراه في سيرته الجمعية، كواحد من أهم صناع الفرح.
نهاد والمجتمع، الجمهور، المرأة
عديدة هي الأعمال الفنية سواء في المسرح والسينما والتلفزيون، تلك التي خاض فيها قلعي، إلا أن أكثرها متابعة ومشاهدة حتى اليوم، عند الجمهور المحلي والعربي، مسلسل “حمام الهنا” الشهير، وهو من تأليف قلعي وإخراج فيصل الياسري، أٌنتج عام 1968، ومسلسل “صح النوم” نهاد قلعي-خلدون المالح-عرض لأول مرة عام 1972، ويمكن من خلال النظر إلى بعض التفاصيل الهامة في العملين أن نوجز بعض النقاط الإبداعية، في تفكير قلعي الفني والإنساني، وعلى رؤيته لدور الفن وطبيعته.
عندما أراد نهاد قلعي أن يوظف قراءته للأدب العالمي في الدراما المحلية، كان الجمهور في حسبانه أولاً، لذا اشتغل عند تأليفه لـ “حمام الهنا” على أن يراعي ذائقة هذا الجمهور، ما يحب، ما يشده، وبنفس الوقت ما يرتقي بذائقته الفنية والفكرية أيضاً، دون التعالي عليه، كما أنه سيقدم له ما يمتعه أيضاً ويسليه، فقام باقتباسه عن رواية “أثنا عشر كرسياً” -إيلف – بتروف، بعد أن أجرى معالجة درامتورجية مناسبة للمشاهد المحلي والعربي، محولاً إياها إلى مسلسل تلفزيوني راق، في خطابه ومعالجته ورسالته، بقالب كوميدي ممتع، حريصاً على تضمينه نقداً اجتماعياً صادقاً، للعديد من المثالب الحياتية، التي كانت سائدة حينها، كرأي الشارع في المرأة العاملة والفنانة، لتظهر في أعماله سيدة وحرة وصاحبة قرار، بل ولها قدرتها على المواجهة حتى بمشاعرها، تلك التي لم يكن يجعلها نص “نهاد قلعي”، خجولة ومكبوتة أو فضائحية، بل قائمة ونابضة بالحياة، كما في شخصية “فطوم حيص بيص” التي أدتها ببراعة وعفوية الفنانة “نجاح حفيظ” -1941-2017- في مسلسل “صح النوم” الذي يتناول حكاية تجري في فندق دمشقي، تديره “فطوم” صاحبة الشخصية القوية، الجريئة، “أخت رجال” كما في المعنى الشعبي الدارج، أي تقديمها بشخصية مغايرة تماماً لحالها في الشارع المحلي والعربي عموماً، وعلى العكس تماماً أيضاً، من معظم ما يقدم اليوم في الدراما التلفزيونية، من تسليع للمرأة و وتبخيس لمشاعرها، لجسدها وإنسانيتها، أو في الصورة المهينة التي قدمتها فيها أعمال البيئة عموما، والتي تظهر في معظمها، كمصدر للشر وللفتن، عدا عن كونها ثرثارة ولا كيان لها!، وهذا مثال عن شخصية من الشخصيات الكثيرة التي اخترع وجودها ليقدم رسالته الإنسانية والغيرية على مجتمعه وأهله، فهو مهندس في رسم الشخصيات، وشاعر في وصف سمات الشخصية، وطبيب في أسلوب معالجة السيناريو.
نهاد قلعي وخلود الأثر
توفي نهاد قلعي17 تشرين الأول 1993، وكان قد غاب عن الجمهور لفترة طويلة قبل وفاته، بسبب مرضه، تخللها ظهورات محزنة في عدة أعمال فنية درامية، كشخصية “أبو ريشة” الشهيرة في مسرحية “غربة” -التي حفرها في ذاكرة ووعي المشاهد بالإبرة كما يقال-إلا أن الأثر الكبير الذي تركه في الفن، لا زال حاضراً بقوة، ومؤثراً بلطف وعمق، هذا ما تقوله نسب المشاهدة العالية لأعماله، ومن مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية، وهذا ما يقوله منطق الفن وتاريخه، ومنطق الحياة نفسه.