الوحدة
عبد الكريم النّاعم
*لا يذهبنّ الظنّ بعيداً عن المقصود الذي سيتوضّح، وما ذهبتْ إليه أذهان الأكثرية كما أظنّ، سيرد منه ذكر لا يخلو من الطرافة والدّلالة.
*قصدي في هذه العجالة هو عن “الوحدة” التي هي العزلة، وهي في الغالب تكون إجباريّة، إمّا لسبب عامّ، أو لسبب خاص.
*قبل الخوض في الموضوع، سأعرّج على ما ذهبتْ إليه الظنّون، وهو ما أن نذكر مفردة الوحدة حتى تذهب الأذهان إلى “الوحدة العربيّة” والتي شُحنتْ بها النفوس منذ خمسينات القرن الماضي، ورغم قداسة هذا الهدف، وأحقّيته، فقد كان الشحن تعبويّاً، وأكبر بكثير من القواعد التي أقمناها لإقامة ذلك البنيان.
في سبعينيات القرن الماضي، وفي إحدى الإعداديات، كان موضوع الإنشاء، لأحد الصفوف، في الفحص الانتصافي، “الوحدة خيرٌ من جليس السوء”، أكتب في هذا الموضوع، فكان أن كتب تسعون بالمائة عن الوحدة العربيّة، مّا اضطرّنا لتعديل سلّم العلامات، فأعطينا للأسلوب ما نسبته ثمانون بالمائة، وللموضوع ما تبقّى.
تلك هي الحادثة الطريفة.
*يؤكّد علماء الاجتماع أنّ الإنسان اجتماعيّ بطبعه، أي أنّه يُفترَض فيه في الظروف العاديّة ألاّ يحبّ الوحدة التي هي العزلة، لأنّها بمعناها “الفرديّ”، مُناقضة “للزوجيّة”، فآدم كانت حياته ناقصة، موحشة لولا حوّاء، زوجه، التي خُلِقتْ.. فاستُلّتْ من بين أضلاعه، تعبيراً عن الحميميّة، لا عن النّقص، ولا عن التّعالي الموهوم، وهذه “الزوجيّة” تظهر بنية أساسيّة في تكوين الموجودات، من الإنسان، إلى الحيوان، إلى النّبات، وتشمل الأغلب الأعمّ من المكوَّنات، فمثالها موجود في الكهرباء على شكل السالب والموجب، وفي تكوين الذرّة، النيترون والبروتون، وقد جاء في القرآن الكريم “سُبحانَ الذي خلَقَ الأزواجّ كلَّها”.
*أشدّ أنواع الوحدة قسوةً على النفس هي التي تكون قسريّة، بمعنى أنّها ليست خياراً، بل موقفاً مفروضاً، كأن يعتزل الإنسان المجتمع حين يفقد المجتمع أسباب الأنس، والألفة، ورحابة الالتقاء، وهذا غالباً يكون حين يعمّ الفساد، فحيثما تحرّكتَ لا تجد إلاّ المقْت، والتذمّر، والشكوى الجارحة، فتُصبح الوحدةُ ملجأ لحماية ما تبقّى من الكيان البشريّ بغير تلف.
ثمّة وحدة أخرى تُفرَض، وهي التي تصدر من جهة لا بدّ من تنفيذ أوامرها.
كنتُ في بلد عربيّ شقيق بدعوة للمشاركة في نشاط أدبيّ فكريّ، وخلال مدّة الإقامة فيه، استلطفني أحد أبنائه المشاركين، وفهمتُ من تلويحاته أنّه مُعارض لنظام رئيس ذلك البلد، وأنّ قريباً آخر له كان واضح المُعارَضة، فأمر رئيس البلاد بزجّه في السجن، في مُنْفرِدة، وبقي على هذه الحالة أكثر من عشرين سنة، وحين أُفرِج عنه، كان يحتاج للتأهيل في كلّ شيّ، فهو إنْ جلس بين الناس عيناه زائغتان، موجود جسداً لا غير، عباراته غير مركّزَة بل مشتّتة، وحتى مشيُه بقي غير متوازن لفترة، كما أنّه كان في البداية يتضايق من الضوء الساطع، حاضر جسداً، غائب عن نبض الحياة، لقد سلبتْه الوحدة القسريّة الكثير الكثير من حيويّته، ومن إنسانيّته التي كان واضحاً أنّها قد انتُهكتْ حتى الإشباع.
في مثل هذه الحالة هل يستطيع مَن أمر بسجنه أن يعوِّضه شيئاً ممّا استلبه منه؟!! لقد أمر الرئيس بصرف رواتبه منذ أن سُجن حتى تاريخ الإفراج، فهل يعادل ذلك ثمن المرارات القاتلة التي تولّدت في نفسه؟!! سيذهب المال المُعاد لصاحبه، ويُصرَف، فمن يُعيد لذلك الذي سلُبَ من إنسانيّته، وهو ما لا يُقدَّر بثمن، ولا تفي بقيمته كنوز الأرض؟
بعض تصرفات الإنسان لا تعرفه حتى عوالم الحيوان الضاري المفترس.
*بقيتْ “وحدة” الختام، وهي القول المصري الخفيف الدم: “رقَصني ياكدع عَ الوحدة ونص..”.
aaalnaem@gmail.com