أغاني وحكايات ع البال
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
يحضر في الذاكرة برنامج “حكايات وأغاني ع البال” الذي بث في عام 2004، وقد تابعته حينها بشغف كبير حيث تطل علينا الحكاية ممزوجة بالأهزوجة تارة وبالطفولة تارة أخرى، بالدلعونا حيناً وبالميجنا حيناً آخر.. هي ساعة من الزمن نسافر فيها مع عبق الماضي وذكرياته، وقبطان رحلتنا الشاعر الراحل “سعدو الديب” الذي كان يحمل في جعبته مواضيع وأفكار كثيرة جميلة ومهمة، تعيدنا إلى أيام مضت وتكاد تصبح طي النسيان، وهو في برنامجه هذا يوثق للأغنية الشعبية السورية في محافظات القطر كلها، عبر العودة إلى الأصول والتراث، فيروي لنا حكاية كل أغنية واللون الذي تؤدى فيه ضمن عناوين عديدة (كالدلعونا والميجنا واللالا والموليا، وكذلك العتابا والموشح والقد)، كما يرصد أنواع الدبكات الشعبية وأغانيها في سورية.
وقد تألق الشاعر سعدو الديب معد البرنامج ومقدمه عبر صوته الرخيم الذي يعيدنا إلى دفء الجدات ومتعة حكاياتهن بسرده لكل حكاية تراثية يقدمها، وكيف نشأت والتعديل الذي طرأ عليها سواء بالتحوير أو الاقتباس على منوالها دون التنويه للأصل، لا من قبل المؤلفين ولا الملحنين، وما يميز هذا البرنامج أن غالبية هذه الأغنيات عرفناها وحفظناها عن ظهر قلب، دون أن نفكر لحظة بنشأتها أو موطنها الأول، وهنا يكمن سر المتعة في متابعة حلقات البرنامج وانتظارها من أسبوع لأسبوع.
ولم يكتف شاعرنا بذلك بل كان يبحث أحياناً في أصل الكلمات، فنحن نردد الألحان التراثية ونطرب لها دون أن نهتم بفهم معاني كلماتها مثل: (المشمّل، الدلعونا، أمَّنيه.. الخ) وقد تقتصر معرفة هذه المفردات على البيئة التي أفرزتها، لكنها تبقى مبهمة وغير معروفة في مناطق أخرى، ومع ذلك نرددها ونستمتع بها، فهذا البرنامج يلبي للمشاهد حاجتي التثقيف والمتعة معاً.
ومما كان يغني البرنامج ويزيده ثقافة، المداخلات الفنية الغنية بمعلوماتها التي كان يقدمها أصحاب الاختصاص من باحثين بالتراث كالأستاذ محمد قجة، أو ملحنين كبار كالفنانين سهيل عرفة وإبراهيم جودت، وهذا مايعطي المعلومة التي تقدم المصداقية التي يحتاج إليها المشاهد ويبحث عنها، لذلك يأتي هذا البرنامج ليعيد للأغنية الشعبية ألقها، ويمسح عنها الغبار المتراكم عليها بحكم التغييرات التي طرأت على المجتمع، هذه الأغنية التي تنبع من الشعب وتعبّر عن معتقداته وتقاليده فيجد الناس فيها متنفساً لعواطفهم ومشاعرهم، كونها منظومة باللهجة العامية، وتروى مشافهة، كما تقسم من حيث شكلها أو موضوعاتها إلى أقسام عدة كأغاني العمل والأغاني الدينية وأغاني الأفراح، وأغاني الطفولة المعروفة بـ”الهدهدة” وأيضاً أغاني البكائيات وغيرها كثير..
من هنا فقد اتجه الكثير من مؤلفي الأغاني إلى التراث الشعبي، هذا الكنز الذي هُجر لفترة من الزمن، فاستلهموا منه أفكاراً تتناسب وحجم العمل الذي يقدمونه وطبيعته هادفين بذلك إلى الاستفادة من رشاقة اللحن وجمالية المعاني وبساطة الكلمات، ليعيدوا تقديمها للمجتمع الشعبي بتلك الصيغة التي لم تتجاهل أصول تلك الأغنيات وشكلها الإبداعي الذي يدغدغ حنينهم ويعيدهم إلى ذكرياتهم، وبطبيعة الحال فإنه من المفروض عندما يطرأ على أطر المجتمع وعلاقات أفراده ومعطيات حاجاتهم أي تطوير نتيجة تطور الحياة وظروفها، أن يعمد المجتمع الشعبي إلى إعادة صياغة أشكال تعبيره، حتى يتمكن من ملاءمة الأغنية مع حاجاته المتجددة وفقاً للظروف الجديدة التي يعيش في إطارها.
وفي مقارنة بين مايقدم هذه الأيام من أغنيات لاتمت لواقعنا وحياتنا بأي صلة، نلاحظ ظهور عدد من الأغنيات التي حققت شعبية لابأس بها لمطربين يعتمدون على اللون الشعبي في أغنياتهم مثل: (الحاصودي، علوش، هاجر… وغيرها)، أغنيات تعود بأصلها إلى التراث الشعبي القديم في بادرة منهم لإحياء هذا التراث، أغنيات أعادتنا إلى أيام الصفاء والنقاء التي افتقدناها في زحمة الحياة وإشكالاتها.
وانطلاقاً من ذلك فإن برنامج مثل (حكايات وأغاني ع البال) يمثل عودة حية للتراث يستلهم الماضي بعفويته وتلقائيته، ويطل ضمن هذا الركام من أغنيات هذه الأيام كقنديل مضيء في سماء معتمة، حيث يظهر كل يوم العديد من الأسماء الفنية التي لاتقدم شيئاً من الفن، لكن يبدو أن لكل عصر معطياته التي تجد من يتفاعل ويتكيف معها، ويبقى هذا البرنامج بقالبه الإخراجي للمخرج محمد زاهر سليمان الذي جاء متناسباً مع فكرة البرنامج، ورصد مشاهد جميلة وممتعة لكل حكاية، قيثارة تعزف على وتر الذاكرة، وتبقى هناك أشياء كثيرة تخطر على البال.