مجلة البعث الأسبوعية

استراتيجية الهيمنة الأمريكية.. أحلام لا تفارق أصحابها

 البعث الأسبوعية- ريا خوري

لم يكن هدف الحرب في أوكرانيا بعيداً عن التعيين والبرمجة، فقد عملت إدارة صناعة الأزمة التي أرست قواعدها الولايات المتحدة الأمريكية، والعديد من دول حلف شمال الأطلسي ( الناتو) إلى دفع الأزمة نحو الاشتباك والقتال المباشر على الأرض الأوكرانية، وهي كستار تكمن خلفه أحلام السيطرة الكاملة على النظام العالمي، والحفاظ على تلك القطبية الأحادية بعد تطور وتفوق الصين وروسيا اقتصاديا وسياسياً وعسكرياً، وبدء المنافسة العملية على قيادة العالم في المستقبل.

تلك الحرب المتزاوجة بين النظام الدولي، والحرب الساخنة تسجله شهادات أمريكية لمسؤولين أمريكيين كبار، وخبراء استراتيجيين لديهم معرفة عميقة على كل المخططات، والمشاريع، وعلى اطلاع على ما يجري في الخلفية غير المرئية للمشهد الاستراتيجي الظاهر للعيان. إن ما يحرك الأحداث بذلك المنهج وتلك الطريقة، ليس وليد الظروف، والأوضاع الدولية الراهنة والمتغيرات العالمية المتسارعة، لكنه يتأسس على معايير علمية وتاريخية ثابتة، تستخدمها سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في توجهاتها، استناداً إلى ما يطلق عليه “الاستراتيجية الأمريكية العالمية”، وهي عملية تقوم الدولة بمقتضاها بالمزج بين الوسائل والأهداف المرسومة، وهو ما يقرب حاضراً من التكامل  شبه التام بين حرب أوكرانيا كوسيلة، وهدف أساسي هو الهيمنة على النظام الدولي.

لقد أكّد العديد من الخبراء والباحثين الاستراتيجيين إنّ الحوارات والنقاشات الساخنة الدائرة حول الاستراتيجية الأمريكية العالمية، كان يجرى بشكلٍ يومي متساوقاً مع الخطط والمشاريع الهادفة لتمدّد حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إضافة إلى ذلك صعود جمهورية الصين الشعبية، والميزانية العسكرية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والسياسة التجارية، وفي هذا تكون مهمة المخططات الاستراتيجية العالمية، أي المزج  والتداخل بين تلك المكونات معاً في نسيج ملتحم بعضه ببعض.

وكذلك يرى بعض الخبراء الاستراتيجيين والمحللين العسكريين والاقتصاديين أن الاستراتيجية الأمريكية العالمية بدت في ظروف لاحقة مثيرة للارتباك وغير متوازنة، لأن انتهاء الاتحاد السوفييتي السابق أدى إلى تحوّل النظام العالمي بشكلٍ دراماتيكي، وتغيّر آلية قيادة العالم وتحوّله من قيادة ثنائية القطب إلى قوة أحادية القطب تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وفي نفس الوقت لم يطرأ تغييرات كبيرة وواضحة على الاستراتيجية الأمريكية التي يتوافق مع التغييرات التي أحدثتها نهاية المواجهة مع الاتحاد السوفييتي السابق، بحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية بقيت تتبع معايير استراتيجيتها العالمية نفسها التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام منذ عام 1945، و بقيت حتى عام 1991، والتي عرفت بإستراتيجية التفوّق، وهي امتداد متواصل لما سعى إليه صنَّاع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى إيجاد نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة وحدها دون أي شريك .

يمكن البناء على مفهوم تم الترويج له على أنّ الولايات المتحدة الأمريكية القوية هي التي تتمتع بالتفوق على جميع الأصعدة السياسية والعسكريةً والاقتصادية، وتقوم على فكرة القيم الأمريكية التاريخية باعتبارها مركز اهتمام وإلهام للشعوب الأخرى في العالم، وبقي ذلك من بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق يمثل جوهر استراتيجية الغلبة والتفوق، والقوة الكبيرة  المحركة للسياسة الأمريكية الخارجية. ومع ذلك، فقد بقي صنَّاع السياسة الخارجية في غياب الحرب الباردة تنقصهم الدوافع التي تقدم الذرائع والتبريرات على استمرار الولايات المتحدة الأمريكية في السعي إلى التفوق على الصعيد العالمي .

لقد استمر الحديث مطولاً حول استراتيجية فائض القوة والجبروت الأمريكية، إلا أن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية لم يطرأ عليها أي تغيير جوهري، مقارنةً بما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945. ومنذ ذلك اليوم وإلى الآن مازالت الولايات المتحدة تسعى إلى دفع استراتيجية التفوق والتميّز من أجل تقوية وتفوق السيطرة الأمريكية على النظام الدولي، بمنع ظهور أي  قوى دولية كبرى منافسة في القارة  الأوربية وشرق آسيا.

وهناك جانب آخر من جوانب هذا النمط من التفكير يرى أنَّ استراتيجية التفوق والتميّز تقوم على فرضية أن الدول والحكومات تحقق أمنها واستقرارها ليس عن طريق ميزان القوى بكل تنوعها، بل عن طريق انعدام توازن القوى وعدم استقرارها، وأن ذلك يتحقق من خلال السعي إلى السيطرة  والهيمنة.

الجدير بالذكر أنّ العديد من المؤسسات ومراكز الأبحاث،  وأولها مؤسسة “راند” التي تتمتع بثقل سياسي كبير داخل الولايات المتحدة  الأمريكية، قد نشرت العديد من التقارير التي تؤكد أنَّ استمرار السيطرة والهيمنة الأمريكية على العالم يعدّ شرطاً أساسياً مطلوباً ومهماً في الآن ذاته من أجل ضمان الأمن والاستقرار العالمي. كما يرى بعض الخبراء الاستراتيجيين أن صعود قوى دولية جديدة، سوف تكون له نتائج سلبية بل ضارة بالولايات المتحدة الأمريكية، أول  تلك النتائج أن أي قوة كبرى جديدة في العالم  قد تندفع باتجاه المشاركة في قيادة العالم،  وتتطلّع نحو الهيمنة الدولية، وإذا نجحت في ذلك، فإن هذا  الأمر سيمثل، أولاً، تهديداً جدياً لأمن الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبلها. وثانياً، فإن ظهور قوة كبرى جديدة، كان من الناحية التاريخية يعدّ ظاهرة تقود إلى عدم  التوازن وعدم الاستقرار على مستوى السياسة الدولية ، وإن كان ذلك لا يمنع من ضعف القدرة على منع صعود الصين على وجه الخصوص كقوة كبرى جديدة مندفعة بما تملك من قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وذلك لأنها تقع خارج مجال النفوذ الأمريكي بخلاف الحال بالنسبة لدول القارة الأوروبية، أو اليابان، على سبيل المثال. ثم إن  التحولات والتطورات المتلاحقة في التقدّم في جمهورية الصين في مختلف فروع امتلاك القوة  الجبارة قد جعلتها بالفعل قوة عظمى، ولن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية  مهما فعلت منع ظهورها على المستوى الدولي .