Uncategorizedثقافةصحيفة البعث

صقر عليشي يترك للقصيدة انسيابها: أحاول تقديم الجوهر كما فعل الرّحابنة

نجوى صليبه

ليس غريباً أن يكون مقلّاً في اللقاءات الإعلامية والأنشطة الثّقافية، فقد عرفنا من أصدقائه المقرّبين جدّاً أنّه قليل الكلام ـ وهذا طبعه ـ وأنّه لا يتحدّث إلّا إذا كان لديه شيء جديد ومختلف. واليوم على ما يبدو كان لدى الشّاعر صقر عليشي ما هو جديد لمحبيّه ومتابعيه ليقوله لهم في حوار مفتوح أداره ملهم الصالح، وأقامه فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب.. يبيّن: اكتسبت هذه العادة وأنا صغير وكبرتُ وكبرتْ معي.. ألتزم بنوعٍ من الخجل يمنعني من الكلام إلّا في وقت معيّن وزمنٍ معين، ومع مرور الزّمن تخلّصت منه قليلاً، لكن بشكلٍ عام أحبّ عندما أتحدّث أن يكون هناك ضرورة وفائدة.

ويضيف عليشي: أشكر أشخاصاً عديدين كانوا سبباً في سيري بهذه الطريق، التّحية  لعين الكروم، وناسها الطّيبين الذين ربيت بينهم وأنا طفل، كنت أسمع في أحاديثهم تمجيد الشّعر والشّعراء، وربّما كانت تلك الأحاديث حينها موجّهة إليّ لأكون شاعراً، وأشكر الشّعراء الأوائل الذين تعرّفت عليهم وجعلوني أحبّ كتابة الشّعر وأرغب في الكتابة مثلهم وكانوا أنموذجاً وهدفاً، وأذكر بدويّ الجبل ونزار قبّاني ومن ثمّ الشّعر الصّوفي، وأذكر أيضاً محمود درويش وهو تجربة مهمّة وقامة كبيرة، عندما سُئلتُ مرّة بمن تأثّرت من الشّعراء أجبت: لم ينج أحد من شرّي، ولم أكتف بالشّعر العربي بل كنت أقرأ كلّ تجربة عالمية مترجمة أسمع بها، وكنت أحرص – وما أزال – على قراءتها والتّفاعل معها.. كلّ هؤلاء تركوا بصمةً لديّ وربّما هذا ما جعلني مختلفاً قليلاً في التّجربة الشّعرية العربية.

وكما شعره، لا يصطنع عليشي الإجابات بل ولا يجمّلها، فنراه يجيب على تساؤل أحد الحضور عن كيفية تحويله الألم إلى فرح بالآتي: لا أعرف.. أنا هكذا أكتب.. متصالح مع نفسي.. وعندما تأتي القصيدة أتركها تجري بانسيابها وأكتبها، لكنّي لا أحبّ الحزن والألم، وربّما تأتي بشكلٍ خلفي وخفيف.. أنا شاعر الحياة والفرح.. لا أحبّ أن أُسَمّى بـ “شاعر الكوابيس”، وما إلى ذلك، مضيفاً: أحاول تقديم الجوهر كما فعل سابقاً الرّحابنة، وبالمناسبة هم أساتذتي أكثر من غيرهم من الشّعراء.

كما أنّه لا يجد ضيراً من البوح مراراً بعشر سنوات من “اللاكتابة” على خلاف كثير من الشّعراء خصوصاً، والأدباء عموماً، الذين من المستحيل أن يناموا يوماً من دون كتابة بيت أو قصيدة. يقول: بسبب سيطرة حالة من اللاجدوى عليّ، مرّت عشر سنوات لم أكتب فيها حرفاً، لدرجة أنّي صرت أخاف أن تستمر هذه الحالة أكثر وألّا أستطيع كتابة الشّعر مستقبلاً. وبعد هذه العشر، عدتُ بديوان “قليلٌ من الوجد”، وكتبته بالكامل في مقهى الرّوضة. لقد بقيت سنةً كاملةً أتردد على المقهى كلّ صباح حتّى أنجزته، وبعد ذلك صرت أعاني من الغزارة، أعتقد أنّ سنوات التّوقّف عن الكتابة كانت مفيدةً، ربّما كانت فترة تأمّلٍ وتخزينٍ.

وحول السّخرية الموجودة في شعره، يتحدّث عليشي: الأدب السّاخر طريقة بالتّعبير مهمة، كونها تدخل النّفس والعمق وتفعل فعلها، وهو ليس أعلى قيمة فنيّة من غيره، لكنّه نوعٌ أدبيٌّ أحياناً أجيده وأحياناً لا أجيده، وهو أدب قليل جداً، فكلّ خمسين سنة أو أكثر يظهر لدينا من يكتب هذا الأدب.. اليوم موجود أنا والشّاعر محمد عيسى، مضيفاً: أنا لست عدوّ أي عملٍ إبداعيّ آخر غير الشّعر، كلّ الفنون والآداب جوقة واحدة أفرح لها جميعاً.. في فترة من الفترات كنتُ أقرأ الرّوايات ولا أقرأ الشّعر.

وفي قراءته النّقدية، يشير الدّكتور عاطف بطرس إلى نقاط مهمّة وحسّاسة في تجربة عليشي. يوضّح إنّه يتموضع بين تجربتين، لا مقلّداً ولا مقتفياً أثر هذه أو تلك، هما تجربتي رياض صالح الحسين ونزار قباني، لكنّه لم يكن تلميذاً بل معلّماً ومبدعاً ومضيفاً، إنّه يجمع بين الموهبة والبداهة والعفوية، إنّه يهبط بالشعر من عليائه إلى مفردات ونثريات الحياة اليومية، لأنّها تحتوي مخزوناً دلالياً مختلفاً أي يقوم بتفجير المفردات أو تعبئتها وهو مانسميه بالانزياح الدّلالي بما يتناسب مع الموهبة والخبرة..

ويعرّج بطرس على أربع ظواهر في تجربة عليشي، يقول: الظّاهرة الأولى في تجربة عليشي هي  العلاقة بين الرّيف والمدينة، فالرّيف ليس نقيضاً، والمدينة ليست حبالاً من طين  تلتف حول عنقه، بل جاء يحمل قيماً ومثلاً وحياةً أقرب للطّبيعة التي لم ينفصل عنها، إنّه ابن الطّبيعة وهمّه وهاجسه أن يعود من حيث جاء نقيّاً صافياً، والثّانية فهي موضوع الطّفولة، ولا نعني هنا قلّة الخبرة أو انعدام الوعي، فالشّاعر إن خسر طفولته لم يبق له شيء للمستقبل، فالطّفولة مراحل كثيرة على الطفل تجاوزها، وهي أفقٌ مفتوحٌ استطاع هذا الطّفل أن يعبّئ هذه التّجربة مع المحافظة على الطّفولة، وأمّا الثّالثة فهي السّخرية التي لا يبنيها على الإضحاك  بل على المفارقة والمتعة الجمالية.. هو يسخر ممّا يوجع ويؤلم بعفوية طفل، وأمّا الظّاهرة الرّابعة فهي النّزعة السّردية التي من خلالها نقرأ حياة صقر من شعره.

ويؤكّد بطرس أنّ قيمة الشّاعر صقر عليشي لاتأتي من موضوعاته بل من تحريره الشّعر من كلّ ما ألصق به وأضيف إليه، يوضّح: ليس من بنية أو طبيعة الشّعر أن يكون ديوان العرب، وأهمية الشّاعر في الإشكالات التي يقدّمها للتّعبير عن هذه الموضوعات، لذلك نجد أنّ الشّكل الشّعري عند عليشي قد تجاوز الرّاسخ في أذهاننا عن التّجربة الشّعرية العربية من دون تقليد أو قطيعة، بل اختط منهجاً جديداً في كتابة الشّعر، لقد ترك الباب مفتوحاً لنقول إنّه يكتب شعراً من دون أن نحدد وفق ما هو متعارف علينا في ذائقتنا..

أين يتموضّع صقر عليشي على خارطة الشّعر العربي؟ سؤال يطرحه ويجيب عليه بطرس بالقول: المكانة تتحدد بالإضافة والخصوصية والتّميز، لذلك نستطيع أن نقول إنّه استطاع أن يتميّز ليس فقط عن أبناء جيله، إنّما عن الذين سبقوه مع امتصاص خلاصة تجربته وانفتاحه على ثقافات العالم.