مجلة البعث الأسبوعية

الحامل الأساسي للأمن الغذائي وأكبر مستوعب لليد العاملة ليس على ما يرام! “الزراعة”.. فلاحون يهجرون أراضيهم ومستثمرون يرتابون من توظيف أموالهم فيها!

البعث الأسبوعية – المحرر الاقتصادي     

“فرص العمل”.. عنوان طالما تناقلته الحكومات السابقة معتبرة أنه إحدى أهم الملفات الساخنة ومن أولويات أجندتها وبرامجها الحكومية، لكن تفاقم مشكلة البطالة جعل ملف توفير فرص العمل من أكبر تحديات الحكومات السورية المتوالية.. فكل حكومة سابقة كانت تسلم الحكومة اللاحقة هذا الملف الذي كبر شيئا فشيئا ككرة الثلج ليستقر بثقله على أجندة الحكومة الأخيرة مشكلا تحديا كبيرا لها، وعليها أن تبحث عن استثمارات جديدة لاستيعاب البطالة المتجددة، وزجها في مفاصل الاقتصاد السوري عبر معادلة متكاملة تفضي إلى تحسين مستوى المعيشة من خلال تشغيل من لا عمل من جهة، وتقوية الاقتصاد الوطني والشد من أزره من جهة ثانية.

كبيرة ولكن!

وفي الوقت الذي قد نعتبر فيه أن “الأرض الزراعية” في سورية هي أكبر وسيلة إنتاج معروفة للقاصي والداني، وتشكل ركنا أساسيا في اقتصادنا الوطني ولها بصمات إنتاجية لا يمكن إغفالها، إضافة إلى أن عمرها يمتدد لمئات القرون، يؤسفنا أن نحذر من بدء انحسار هذه الأرض شيئا فشيئا لأسباب ردها البعض إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي وهجرة الفلاح لأرضه والتوجه للبحث عن موارد رزق جديدة أكثر عائدية وأقل مجهودا، والبعض الآخر عزا أسباب تراجع إنتاجية الأرض إلى الظروف المناخية وانخفاض مناسيب المياه الجوفية وانحسار بعض الموارد المائية، وجفاف البعض الآخر!

أسباب!

أسباب عديدة ساهمت بخروج مساحات زراعية من الخدمة في وقت بات العالم يحذر من أزمة غذاء عالمية قادمة، ما يعني أن الأمن الغذائي أصبح على أولوية الأجندات العالمية، لذلك لابد من التوجه نحو القطاع الزراعي بكل زخم لدعمه وتشجيع الفلاح على الاستمرار باستثمار أرضه دون هجرانها حتى لا ينتهي بها المطاف إلى التقاعد النهائي، ولاسيما إذا ما أخذنا بعين أن اللون الزراعي هو الطاغي على بقية ألوان الاقتصاد السوري، ما حدا ببعض المراقبين للدعوة إلى ضرورة التوجه نحو القطاع الزراعي وتفعيله لاستيعاب البطالة وتوفير فرص عمل كونه الأكثر رحابة من بقية القطاعات والأقدر على تأمين آلاف الفرص، وذلك عبر إعادة هيكلته ومأسسته في كلا القطاعين العام والخاص تفاديا من الوقوع بفخ البطالة المقنعة لاسيما في القطاع العام، واعتبر المراقبون أن القطاع الزراعي هو المنقذ الأكبر للحكومة لامتصاص البطالة لاسيما أنه لا يحتاج في معظم مفاصله إلى خبرات ومهارات خاصة، لذلك على الدولة بذل أقصى ما يمكنها للاستفادة منه لزج من لا عمل له في قطاع يشكل أهم أركان الاقتصاد الوطني وصمام آمان للأمن الغذائي المحلي.

عمل فردي!

يعتبر البعض أنه من الصعوبة مأسسة القطاع الزراعي كونه بالدرجة الأولى عمل فردي، لكن يمكن مأسسته عن طريق المزارع التابعة للدولة بحيث تقوم الدولة بتعيين أرض في كل منطقة وتحولها إلى شركات زراعية  صغيرة، وتقوم بهيكلتها إداريا وفنيا وتجهزها بكافة المستلزمات والآلات الزراعية، بالتعاون ما بين وزارة الزراعة وغرف الزراعة واتحاد الفلاحين، وبذلك يمكن توظيف عدد كبير من الفلاحين الذين لا يملكون أرضا ويعملون لدى القطاع الخاص بشكل متقطع وغير مستمر، لكن شريطة اقتران الأجر بالإنتاجية تفاديا من الوقوع في مطب البطالة المقنعة.

لابد من دعمه

أما بالنسبة لمن يمتلك أرضا وليس بإمكانه تأسس شركة زراعية ذات هيكل تنظيمي وإداري بالمعنى المعروف، فلابد من دعمه وتشجيعه حتى لا يهجر أراضه، وذلك من خلال تخفيض أسعار حوامل الطاقة، وتقديم البذور والأسمدة والمبيدات بأسعار منافسة، إلى جانب تقديم الاستشارات الزراعية اللازمة، مع ضرورة تطوير البنية التحتية في كافة المناطق والقرى الريفية، فمن شأن ذلك تفعيل القطاع الزراعي وترسيخ الفلاحين بأرضهم وبالتالي استقطاب العمالة المطلوبة وتشغيلها، إضافة إلى الحد من الهجرة من الريف إلى المدينة إن لم نقل إيقافها.

إحجام

طالما التصقت صفة “الجُبن” برأس المال الذي دائما يبحث عن الملاذ الآمن بهدف تحقيق ربح بأقل فترة ممكنة من الزمن، ولعل هذا أحد أهم أسباب إحجام المستثمرين عن التوجه الكبير نحو القطاع الزراعي المرهون في أغلب الأحيان بالظروف المناخية والبيئية من جهة، وطيلة استرداد رأس المال من جهة أخرى، ما يجعل مهمة الحكومة بتوجيه رأس المال نحو هذا القطاع صعبة جدا ما لم تقدم المزيد من المغريات، علما أن الزراعة في سورية مدعومة حتى قبل صدور قانون الاستثمار رقم 10 الذي يعفي من الضرائب والرسوم وبشكل خاص الرسوم الجمركية إلى حد معين، بينما الإنتاج الزراعي معفى بجميع الأحوال وبشكل دائم.

شبه إجماع

ثمة شبه إجماع على أن الحل الأمثل لتوجيه رأس المال نحو هذا القطاع يكمن بأن يقوم المستثمر بالعمل في المجال الزراعي بشكل متكامل، بمعنى أن يزرع ويصنع في الوقت ذاته، لأن إدخال الشق الصناعي في القطاع الزراعي يقلل من فترة دوران رأس المال، وعلى اعتبار أن الآلات والتجهيزات معفاة من الجمارك سيكون دخله أكبر وتزيد نسبة الحاجة لليد العاملة، مع الإشارة هنا إلى أن الاستثمار في القطاع الزراعي صعب جدا خاصة في الإنتاج النباتي لأنه استثمار فردي بالدرجة الأولى، بينما أكثر سهولة ويسر في الإنتاج الحيواني (المواشي والدواجن) كونه لا يحتاج مساحات واسعة من الأراضي، لكن هذا الإنتاج الحيواني لا يحتاج أيدي عاملة كثيرة مثل الإنتاج النباتي.

ميزة تفقد بريقها!

لعلّ ميزة أن القطاع الزراعي هو أكثر القطاعات استيعابا للأيدي العاملة من القطاعات الأخرى الخدمية والصناعية، بدأت تفقد يريقها في ظل وجود نسبة من العمالة بدأت تهجر الزراعة خلال الفترة الأخيرة للعمل في المدن بسبب تناقص أرباح الإنتاج الزراعي وإيراداته نتيجة الظروف المناخية، والشواهد التي تدلل على هجران كثير من المزارعين لأراضيهم الزراعية إما مؤقتاً أو بشكل دائم عديدة.. فأحد المزارعين بيّن أنه يفكر ببيع أرضه والاستعاضة عنها بأي مشروع تجاري، وذلك لعدم جدوى الإنتاج الزراعي، لدرجة أن المردود السنوي لها لا يغطي تكاليف الإنتاج، مؤكداً أنه غالبا ما يترك إنتاجه في الأرض دون تسويقه كون أن أجرة السيارة التي ستنقل المحصول إلى سوق الهال أعلى من قيمة بيع المحصول ذاته.

مزارع آخر أهمل خدمة ما يقارب 500 شجرة زيتون نظرا لارتفاع تكاليف إنتاجها وعدم توفر المياه اللازمة للري، ناهيك عن صعوبة تسويق زيت الزيتون وانخفاض أسعاره التي تكافئ – في أحسن الأحوال- تكاليف إنتاجه.

في المقابل

في المقابل هناك كثير من المزارعين لا يزالون متمسكين بأراضيهم ومصرين على جدواها الاقتصادية دون أن يخفوا التحديات التي يواجهونها وفي مقدمتها ارتفاع أسعار حوامل الطاقة والأسمدة وأجور النقل، إلى جانب التغيرات المناخية والأمراض والأوبئة الناجمة عنها، معتبرين استمرارهم بالاستثمار الزراعي في كل المواسم من شأنه أن يشكل رافعة مالية لهم، بمعنى أن الخسارات ليست متتالية، فالمزارع ربما يخسر في موسم أو موسمين لكنه يحصل على هوامش أرباح لا بأس بها في مواسم أخرى.

الوضع جيد!

مصادر في وزارة الزراعة قللت من شأن خروج مساحات شاسعة من الاستثمار الزراعي خاصة تلك الواقعة خارج محيط المدن والبلدان والقرى، معتبرة أنها لا تزال تستثمر ووضعها جيد، مشيرة إلى أنه إن كان هناك خروج لمساحات من الاستثمار فهي لا تتعدى تلك الواقعة ضمن محيط المدن والقرى، وأن تحريك أسعار الأسمدة والمازوت لا يعني خروج مساحات كبيرة من الاستثمار نتيجة هذه السياسة، لأن الدعم للفلاحين بقي مستمرا، وأن الدولة لم تتراجع قط عن القطاع الزراعي ودعمه، وإنما أعطت في فترة من الفترات دعما للقطاع الصناعي، فارتفعت مساهمة الأخير بالناتج المحلي الإجمالي نتيجة ما لاقاه من دعم، فظهر وكأن الصناعة حصلت على اهتمام الحكومة أكثر من الزراعة، ورغم ارتفاع قيم مستلزمات الإنتاج دُعم الفلاح أكثر مما كان سابقا سواء من جهة رفع سعر شراء المحاصيل الإستراتيجية منه، أو من جهة دعم قيمة مستلزمات الإنتاج مثل الري الحديث حيث ساهمت الدولة.

الحل

لا شك أن موضوع التنمية الريفية يشكل حلا جوهريا لوقف نزيف الهجرة من الريف إلى المدينة، وحسب أيوب هناك دراسات وعمل جاد لتفعيل هذا الموضوع، مؤكدا أن العمل على ملف التنمية ليس بالأمر السهل ولا تقتصر فقط على البنية التحتية، حيث يتطلب هذا الملف تضافر جهود عدد من الوزارات (الصحة، الشؤون الاجتماعية والعمل، النقل، النفط..الخ) إضافة إلى وزارة الزراعة التي تلعب الدور الأكبر في هذا المجال.

آخر القول

على اعتبار أن السوق في سورية متجه نحو الاقتصاد الاجتماعي لابد أن يكون هناك نوع من التوازن اللاإرادي من ناحية ضخ رأس المال بالاقتصاد الوطني بين مختلف القطاعات الصناعية والخدمية والزراعية، ما يعني أن الأخيرة ستحصل على رأس المال المطلوب بشكل تلقائي وهذا من شأنه على المدى المتوسط أن يفعل القطاع الزراعي ويوفر المزيد من فرص العمل واستقطاب اليد العاملة.

hasanla@yahoo.com