مجلة البعث الأسبوعية

الطفولة.. هذا الغنى البهي

البعث الأسبوعية- سلوى عباس

لم أكن في يوم شغوفة بالأطفال ولا مهتمة بهم ولا بعالمهم، لكن على مايبدو أننا في لحظة من العمر نكون بحاجة إلى هذا العالم البهي والغني، حيث أدركت متأخرة حاجتي للعيش مع تفاصيل هذا العالم البريء، ولأدرك أيضاً كم هو جميل أن تنشىء طفلاً تعلمه وتتعلم منه وتعطيه كل ما لديك من اهتمام ومحبة، طفل يسكن روحك ويملؤها بالحبور، ومن ابتسامة عينيه ينهمر صباحك ويشرق نهارك بالأمل، طفل تشتاق إليه وهو بين يديك، طفل يبهرك بكل حركة يقوم بها وكأنها إبداع متفرّد.

جميل أن يكون لديك طفل تتلهف مع كل استيقاظ لرؤيته والاطمئنان عليه، وتعود معه إلى ملاعب الطفولة تستذكر أيامك الماضية، وتسكنك حالة الحنين إلى زمن البراءة التي لا تشيخ أو تتأثر بعوارض الزمن، فالطفولة تمثل حالة من النقاء الذي افتقدناه الآن في هذا الزمن الموحش والمليء بالحروب والاقتتال حيث يتوقف العمر على حافة القلب وصور من حقيبة الذكريات تفرش لحظاتنا بالولع، وعبق أيام مضت تملأ علينا الدنيا، نقلّب صفحاتها ونقرأ بعضاً منها، فنرى أنفسنا لا نستطيع الفكاك منها، وتبقى ساحة بيضاء مفتوحة لذكريات عشناها ونضحك ملء قلوبنا حين نعود إلى الوراء ننبش في ذاكرتنا عن تفاصيلها..

الطفولة.. حنين لأيام كنا قطفنا من فرحنا عناقيد المسرة وتوارينا في اشتياقنا الوردي، لا وهاد نتوجسها في طريقنا ولا احتباساً يوقف انهمارنا، أيام نعود إليها كلما ضاقت الحياة بنا، لنستمد منها بعض التفاؤل والأمل، ولتكون محطة ننظر فيها إلى الوراء لنرى ماذا أنجزنا، وماذا حققنا من طموحاتنا التي قضينا عمرنا نحلم بها، أيام كانت أحلامنا التي رسمناها هي الهاجس الوحيد الذي يرافقنا في حركاتنا وسكناتنا، وكنا ننظر للغد بعين التفاؤل والرضى، وكأننا قبضنا على أحلامنا كلها دفعة واحدة، ونستعجل الزمن أن يسرع لنعيش الحياة بكل تفاصيلها، ونهيّئ لأحلامنا أسباب تحققها باجتهادنا، وبصراحة كانت تلك الأيام هي الأجمل والأنقى في حياتنا، لأننا بعدها غرقنا في إشكالات الحياة ومتاهاتها.

الأمر على ما يبدو أنه مابين رغبتنا بمعرفة الحياة واشتياقنا الدائم لطفولتنا نرى أنفسنا في متاهة العودة للطفولة واستجلاء الأحداث البعيدة التي لا يمكن أن تكون الذاكرة وقد أوهنتها السنون والحوادث المؤلمة قد احتفظت بها طازجة نقية تشع بالبهاء والطفولة، وتنساب كماء الينابيع التي لا يعرف كل مكامنها سوى طفل مازالت روحه تنبض بالبراءة والعفوية ولم تأخذه الحياة بعد في دهاليزها ومتاهاتها، ولم يعش تداعياتها.. هي ذكريات وأحداث شكلت نسيج الطفولة العذبة التي نحسها تنبض في أرواحنا رغم فارق الزمن والأحداث والظروف، وهي أيضاً أحداث متخيلة تمر عبر مصفاة الحنين، والتوق الأبدي للإنسان في العودة إلى حضن الأم، الحب، الطفولة. ألا تبدو أشياؤنا الصغيرة العابرة والبسيطة ممالك من الفتنة حين نغادرها؟ حين لا نعود قادرين على العودة إليها؟ وكذلك البراءة واللهو الجميل؟ فيما نكتشف الحياة ونحن ندرج صغاراً في سلالمها، أليست طفولة كل إنسان (غنى بهي) وبئر من ذهب لا ينضب، نبع أزلي للحنين والبراءة والعفوية والدهشة؟ فهل يستطيع كل منا أن يعود بذاكرته المتعبة إلى ذاكرة الطفولة الصافية ليرى في كوخه قصراً، وفي زقاق اللعب رفاقاً للروح في غربتها الأبدية.