شاعر بسيط كالماء
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
رغم سنوات الغياب الطويلة لازال الشاعر رياض الصالح الحسين الذي مرت ذكرى رحيله منذ أيام حاضراً في وجدان أصدقائه ومحبيه يحتفون بذكراه وبشعره سواء عبر الأمسيات الشعرية أم عبر استطلاعات الرأي حول شعره، أو حتى الاستعانة ببعض أشعاره في النصوص المسرحية، إذ أن كتابة قصيدة بالنسبة لرياض لم تكن حالة ترفيهية إنما كانت حاجة روحية تتداخل مع حاجته العضوية، فكل مفاهيم الحياة يتضمنها الشعر.
في مجموعته الشعرية الأولى “خراب الدورة الدموية” الصادرة عام 1979 عرف الشاعر رياض الصالح الحسين القراء عن نفسه بقوله: “أنا رياض الصالح الحسين/عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة/ومئات المجازر والانقلابات/وللمرة الألف يداي مبادتان/كشجرتي فرح في صحراء”.
وفي مجموعته “وعل في الغابة” التي صدرت بعد وفاته، يقول:
“أنا حيوان جريح في غابة/أنا زهرة متعبة، أنا وحش من العصور القديمة/طفل لم أحفظ دروسي”.
وقبل أن يلملم بقايا آلامه ويرحل عن عالمنا خاطب رياض سورية التي كانت آنذاك تعاني ما تعانيه اليوم من محنة وألم، خاطبها بقصيدة من مجموعته “بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس” قائلاً: يا سورية الجميلة السعيدة/ كمدفأة في كانون/ ياسورية القاسية كمشرط في يد جراح/نحن أبناؤك الطيبون /الذين أكلنا خبزك وزيتونك/ أبداً سنقودك إلى الينابيع/أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء/ودموعك بشفاهنا اليابسة/ أبداً سنشق أمامك الدروب/ولن نتركك تضيعين يا سورية/ كأغنية في صحراء”.
لقد تفردت تجربته وتميزت حتى أصبحت تمثل مدرسة شعرية تنسب له، ولعل بساطته كإنسان جعلته يتعامل مع الحياة ومعطياتها بطفولة وعفوية وبراءة، لكن شعوره تجاه الحياة وما يعتمل بداخله من أحاسيس ومشاعر لم يكن سهلاً، فأبسط الأمور كانت تسبب له القلق وتجعله يسهر ليلة كاملة دون أن يعرف تفسيراً لهذه الحالة، ولم يكن ينقذه من هذه الحالة سوى الشعر الذي كان بالنسبة له كصديق قديم يلجأ إليه دون تكلف أو اصطناع، وبالتالي تظهر حقيقة مشاعره وانطباعاته عن كل شيء يحس به ويعيشه، وما كان يميز قصائده تناولها لتفاصيل الحياة اليومية وربما هذا عوضه عن فقده للنطق والسمع اللذين أصيب بهما وهو في سن الثالثة عشرة.
عانى رياض الكثير من قسوة الحياة، وكلما ازدادت هذه القسوة وفوضاها عليه كلما تنامى إحساسه بالشعر وضرورته عبر أشخاص تجمعهم محبتهم للشعر وتعاطيهم له وحفظه وقراءته، ومن الأصدقاء الذين جمعه معه الشعر كان نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد ومنذر المصري وغيرهم من الشعراء مجايليه الذين كان لشعرهم تأثيره بالأجيال الشعرية في سورية، لذلك لابد للإنسان من الشعر الذي ينقذه من فوضى حياته وتشتتها، ولعل الشعر هو من يحافظ على هذا الجوهر البسيط لئلا تطمسه متغيرات الحياة، وهناك تلك التجليات الروحية التي يبثها فينا الشعر والتي تجعلنا نرى جماليات الأشياء على غير ما يراها الآخرون الذين حرموا من متعة الشعر والحياة معاً.
كان رياض الصالح الحسين يقاوم ألمه وتعبه بالشعر والحب والأصدقاء الذين يبددوا وحشة أيامه، وفي لحظة من قسوة المرض كتب قصيدة وداع تعبّر عن حالته التي يعيشها يقول فيها:
هاأنذا أمشي وأمشي/بين هزائمي الصغيرة وانتصاراتي الكبرى/وهاأنذا أمشي وأمشي/متألقًا كنجمة في السماء/وحُرًّا كوعل في الغابة/لي وطن أحبه وأصدقاء طيّبون/لقد بدأت أتعلم كيف أبتسم وأقول وداعاً.
انحاز للحياة بتفاصيلها المؤلمة، وعبر من خلال قصائده اليومية عن قلقه الوجودي بلغة تناوب الفرح والحزن في مفرداتها لتشكل صوراً تمثل مشهدية شعرية تنتمي لتجربة رياض الصالح الحسين وحده دون غيره من الشعراء، لكن هذه التجربة لم يكتب لها الاستمرار، لأن عقارب قلبه توقفت على الرقم /28 / الذي أرّخ لتجربة شعرية واعية وناضجة في عمر زمني قصير رسم حدود المسافة بين درعا حيث شهادة الميلاد ومارع التي خطت بدموعها شهادة وفاة شاعر ظل حاضراً رغم الغياب.