فلسطين.. خيارات محصورة بين الموت غرقاً أو اليأس!
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
في حادث ليس بجديد على الشبان الفلسطينيين الذين يقصدون القارة الأوربية، من خلال رحلات الهجرة غير الشرعية، بحثاً عن فرص عمل ومعيشة بعيدة عن الواقع المرير الذي يحيونه، راح سبعة شبان ضحية غرق قاربهم قبالة السواحل التونسية في 23 تشرين الأول الماضي، حيث من بين عشرات اللاجئين الآخرين الذين حاولوا الوصول إلى أوروبا، أُضيفت هذه الأسماء الفلسطينية إلى قائمة تضم أكثر من 110 ضحية ممن لقوا حتفهم في ظروف مماثلة منذ عام 2007.
من المؤكد أن، نزوح الفلسطينيين، أو تهجيرهم بسبب الظروف المعيشية التي تجعل البقاء على قيد الحياة أمراً صعباً، يعود إلى نهاية ستينيات القرن الماضي، أي منذ احتلال الكيان الإسرائيلي لمساحات كبيرة من فلسطين بما فيها قطاع غزة.
حياة غير طبيعية
وفقاً لمسح نشرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر في شهر أيلول الماضي، يرى تسعة من كل عشرة شبان أنهم يعيشون حياة غير طبيعية، ومن بين المستجيبين، قال 40 بالمائة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و 29 عاماً إنهم لا يأملون في العثور على عمل خلال الخمسة عشر عاماً القادمة.
قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي وضعت محنتهم في سياقها في ضوء الحصار الاقتصادي والسياسي الإسرائيلي المستمر أن “خمسة عشر عاماً من القيود التي فرضتها سلطات الاحتلال على حركة البضائع والأشخاص ساهمت بشكل كبير في التدهور المستمر في الوضع الاقتصادي والإنساني في الأراضي المحتلة. وقد أدى ذلك إلى تقييد الوصول إلى الخدمات الأساسية والوظائف والفرص خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة .
وفي استطلاع أجرته جامعة الأقصى، قال 51 بالمائة من الشباب إنهم يرغبون في الهجرة، كما أعرب 26 شاباً من أصل 30 عن رغبتهم في الهجرة، بينهم 15 أكدوا أنهم يعملون بجدية على الهجرة.
على الرغم من عدم وجود بيانات رسمية حول عدد الأشخاص الذين هاجروا من منذ عام 2007، تشير الأرقام غير الرسمية إلى أن حوالي 100000 شخص قد غادروا غزة خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، ويعزو الباحث في مجال حقوق الإنسان، عبد الله شرشاره، هذه الأرقام إلى “الأثر النفسي الذي خلفته 15 عاماً من السيطرة الإسرائيلية على تفاصيل الحياة في غزة”.
مضيفاً: “لقد أوجدت إسرائيل ظروفاً معيشية قاهرة، إذ شنت حروباً مدمرة، وفرضت حصاراً خانقاً، فضلاً عن تدميرها للبنية التحتية، وقصفت محطة الكهرباء، الأمر الذي زاد من معدلات الفقر بين السكان والشعور الجماعي بأن غزة لم تعد مكاناً لبناء مستقبل جيد”.
دوافع إسرائيل وراء الهجرة من غزة
تتفق جميع مكونات المجتمع الفلسطيني على أن هجرة الشباب الفلسطيني تخدم في نهاية المطاف المصالح الإسرائيلية، خاصة أنها تؤدي إلى هجرة الأدمغة وفك ارتباط الجيل الشاب عن الشواغل الوطنية الفلسطينية.
وفي مقال نشره موقع “منتدى التفكير الإقليمي” في أوائل آذار 2021، كشف الباحث الإسرائيلي عومري شيفر رافيف أن “البروتوكولات السرية الإسرائيلية التي كشف النقاب عنها مؤخراً، تظهر تورط حكومات تل أبيب المتعاقبة منذ عام 1969 في تشجيع هجرة الشباب لإعادة تشكيل التركيبة السكانية الفلسطينية، بهدف ضم القطاع دون الحاجة لاستيعاب عدد كبير من سكانه، وإخضاع القطاع بأقل قدر من العبء. ومع ذلك، بعد “الانسحاب” الإسرائيلي من غزة في عام 2005، فقد كيان الاحتلال قدرته على التحكم المباشر في تدفق الهجرة، لذلك تحول تركيزه إلى خلق ظروف معيشية قاهرة للفلسطينيين، مثل الحصار والأزمات والحروب المتتالية.
شنت “إسرائيل” أربع حروب مدمرة على غزة في أعوام 2009 ،2012 ، 2014 و 2021، إضافة إلى أكثر من 20 معركة بين تلك الحروب، أدت إلى استشهاد نحو 4300 فلسطيني وجرح عشرات الآلاف.
وكشف رافيف أيضاً أنه في عام 2019، عملت “إسرائيل” بالتنسيق مع بعض الدول الأوروبية على تسهيل هجرة سكان قطاع غزة، وحتى تنظيم رحلات الهجرة رسمياً. كما أعربت تل أبيب عن استعدادها إنشاء مطار في منطقة النقب الجنوبي المجاورة لغزة، من أجل نقل الفلسطينيين إلى بلدانهم الجديدة في الخارج.
وأوضح رافيف أن هذا النهج لم ينكره أي مسؤول إسرائيلي، بل أكدتها على الفور وزيرة القضاء السابقة آييليت شاكيد، التي أعلنت تأييدها لتشجيع الهجرة من قطاع غزة، بل دفعت من أجل ذلك في مجلس الوزراء لسنوات عديد.
نكبة جديدة
يرى الباحث في الشأن الإسرائيلي إسماعيل محمد أن السياسات التي ينتهجها كيان الاحتلال من خلال الحصار والقيود والحروب المتكررة وتصنيع أزمات الكهرباء والمياه، بالإضافة إلى التدمير الممنهج للاقتصاد الفلسطيني قد رسخت في الذهن الجماعي للأجيال الجديدة بأنه لا يوجد مستقبل مأمول في بلادهم.
وبحسب إسماعيل محمد، تسعى إسرائيل من خلال تشجيع الهجرة إلى “إبعاد الكفاءات والقدرات العلمية من أجل منع المقاومة من الاستفادة منها، بالإضافة إلى تعطيل عجلة التنمية، وجعل القطاع يعتمد على الكيان الصهيوني في المجالات الصناعية والطبية والزراعية”.
كما أشار محمد، إلى أن عدد الأطباء ذوي التخصصات النادرة الذين هاجروا من غزة تجاوز 600 طبيب حتى العام الماضي، إضافة إلى آلاف المهندسين والمعلمين وغيرهم من المهنيين. أما الهدف الإسرائيلي الثاني هو تربية جيل كامل يعارض المقاومة.
قوارب الموت إلى أوروبا
على الرغم من أن مسار الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر “قوارب الموت” محفوف بالمخاطر، إلا أن هذا لا يقلل من تصميم عشرات الشبان على الشروع في مثل هذه المغامرة.
ويضيف أحمد وهو في العشرينيات من عمره: “تخرجت من جامعة الأقصى منذ عشر سنوات من قسم اللغة الإنكليزية، وكنت الأول في دفعتي. لم أرغب أبداً في الهجرة، ولم أكن أخطط لذلك ومثل أي شاب أريد أن أعمل وأؤمن مستقبلي، لكن كل الطرق في غزة مغلقة. الحياة داخل سجن غزة أصعب من أي مكان آخر. أنا أبحث عن أي وسيلة للمغادرة، ولا أستبعد قوارب الموت، لأننا هنا نعيش في حالة موت”.
ومع ذلك، فإن الموت غرقاً ليس هو الخطر الوحيد الذي يواجه المهاجرين، فقد اختطفت العصابات في ليبيا الشبان الاثني عشر الذين غرقوا في قارب قبالة السواحل التونسية نهاية تشرين الأول الماضي، وطالبتهم بفدية مقابل إطلاق سراحهم.
بدوره قال محمد الشاعر شقيق حيدر الذي كان من بين الضحايا الـ12 إن العصابة التي قامت باختطافهم طلبت عشرة آلاف دولار للإفراج عنهم، فأخبرناهم أنه لو كان لدينا هذا المبلغ من المال لما هاجروا.