حاسة القلب في حلب ذاكرة قدود ورهافة عُوْد
حلب-غالية خوجة
نصغي بقلوبنا وأفئدتنا وأرواحنا للجمال، وتتسرب الموسيقا من حاسة سمعنا عبوراً بدواخلنا، ومن دواخلنا إلى ذاكرتنا ومخيلتنا، لننتشر مع كل هذا التناغم في الكون الذي يستعير منّا ذاكرة أجدادنا المنصهرة في أعماقنا، المتناسلة بالقادم من الأبعاد المختلفة لاستمرارية الحياة وأوتارها التي ستظل تعزف إلى ما لا نهاية.
الأوتار ليست “هارباً” و”قيثارة” و”عوداً” و”كماناً” و”بزقاً” و”قانوناً” و”ربابة” و”غيتاراً”، فقط، بل هوية حضارية، وفلسفة وجود متأصلة متواصلة، وكينونة مضيئة بآثارنا الشرقية العربية السورية الأزلية والحاضرة والأبدية.
ذاكرة حجريّة وروح وتريّة
لذلك، ليست آلة العود مجرد أداة موسيقيّة وتريّة، بل لها ذاكرة مشرقيّة عربيّة، وتأريخيّة تمتد لأكثر من 5000 آلاف عام في شمال سورية كما تشهد الآثار الأركيولوجيّة والمكتشفات الأثريّة ومنها نقوش حجرية تمثّل نساء تعزفن على العود، وثقافة حضاريّة متفرعة من جذورها القديمة إلى حفريّات ما بعد اللحظتين الراهنة والآتية.
هذه الآلة الموسيقية تعكس العديد من التفاصيل منها التناغم مع الطبيعة من خلال مواد صنعها لا سيما اعتمادها على الخشب، وهذا يعني الانتماء للأرض والشجرة والأغصان، كما أن فنيات زخارفها ونقوشها وفسيفسائها ورسومها الخطية والرمزية والتجريدية تضيف إليها فناً تشكيلياً آخر بعد سباحة الخشب باللهب والهواء والماء، فتكتمل عناصر الكون، وتتشاكل مع أوتارها وعددها والحركة الصلصاليّة الرشيقة عليها بالريشة الدالة على التحليق مع الطيور والفراشات وكذلك الرامزة إلى ريشة القلم، وما تحمله هذه الريشة من أحاسيس نابضة من أنامل عازفها، وهي ترفرف بالمقامات،وتعبر الأعماق كما تعبر الثقافات وتنثر الحالات التأملية والروحية والإنسانية المختلفة، ساردة الأشعار والفلكلور والحكايات بأبجديتها ومفرداتها ودلالاتها، واشيةً عن الطبيعة أجمل نغماتها، وعن الأنفس أشفّ شطحاتها، وعن الأحزان أعذب رموزها ورواياتها، وعن المحبة أعمق أسرارها، وكأنها تردد مع العارفين بوح السهروردي:”بالسر إن باحوا تباح دماؤهم، وكذا دماء البائحين تباح”، أوتحولات جلال الدين الرومي بين الناي والنأي والنار:”فلكل من قطع عن أصله، دائماً يحن إلى زمان وصله، وهكذا غدوت مطرباً في المحافل، أشدو للسعداء وأنوح للبائسين، وكل يظن أنني له رفيق”.
عازفون تفوقوا على الأطرش
ولأن صناعة العود فن لا يقل أهمية عن فنية العزف وتقنياتها وجمالياتها ورهافتها، فإن اليونسكو سجلت هذه الصناعة الفنية السورية على لائحة التراث الإنساني اللا مادي بجهود سورية وإيرانية، ليضاف للعديد من تراثنا السوري المحلي العالمي ومنها حلب أمّ الفنون والأدب والطرب.
وبهذه المناسبة، قال الموسيقار عبد الحليم حريري – نقيب الفنانين بحلب: أي عنصر يدخل ويثبت كتراث لا مادي هو مكسب للتراث السوري العريق، لحضارة وثقافة متجذرة في التأريخ، وهذا ما تخبره للعالم، مثلاً، مكتشفات تل ماري ومنحوتاتها وآلاتها الموسيقية العائدة لما قبل التأريخ وما قبل الميلاد.
ورأى حريري بأن الكثير من الموسيقيين الحلبية العازفين على آلة العود تفوقوا على عزف الموسيقار فريد الأطرش تقنياً وليس فنياً أو جمالياً، ومن مختلف الأجيال، وذكر لنا منهم بشار الحسن، حمدي الشاطر، عامر عمّوري، صالح غزال، سميح الكور.
الموسيقا حياة خصوصاً بعد الحرب
وبدوره، أكد العازف الموسيقي محمود درعزيني على أهمية الموسيقا كحياة تعلق بها منذ طفولته التي نمت مع المدرسة الصوفية وإنشادها لا سيما الشيخ نديم الشهابي، وبدأ العزف على الغيتار، وذلك أيام عمر خورشيد، وكان أبوه يدندن على العود، وكيف أثرت فيه رباعيات الخيام، وكيف تشبث أكثر بالموسيقا بعد الحرب الظالمة على سورية.
وأضاف: حينها، شعرت أن الموسيقا هي الحياة والثقافة وحضارة الشعوب، ورحلت معها بين حلب وإيران ودبي وقرانكفورت والعالم، ولا أعتبرها مهنة رغم أني أبيع الأدوات الموسيقية في محلي “الشرق الأوسط”، لأن الموسيقا إبداع وثقافة وفن سواء كصناعة آلات أو كعزف، ودرستها على يد مصطفى الدرويش وقدري دلال، وأحب مدرسة منير بشير، وذاكرتي تختزن بالعديد من الفنانين منهم جورجي حايك، جميل قندلفت، أنطوان أبرص، ميشيل خوام، كما أعتز بمعرفة الكثير من الموسيقيين أمثال نوري اسكندر، وعبد الحليم حريري.
وتابع: وتظل سورية علامة عريقة ومميزة، وتظل حلب من أهم محطات طريق الحرير، ومن أهم كنوز التراث الإنساني المادي واللا مادي ومنها القدود الحلبية والموشحات وصناعة آلة العود وفنون الأدب والطرب، إلاّ أن الموسيقا الشرقية تفتقد للآلة لأننا نتذوق الكلمة أكثر من الموسيقا.
أين سوق الموسيقا بحلب؟
ولفتت نظري مكتبة خاصة بالكتب الموسيقية بين العزيزية وشارع بارون، فدخلت متسائلة، ليجيبني صاحبها: إنها مكتبة “نظاريان” المرجع الوحيد لكتب الموسيقا منذ أسسها والدي عام 1968، إضافة لعدة محلات مختصة بكتب الموسيقا، وكانت مكتبتنا ـ وما زالت ـ تزود المعاهد الموسيقية بالكتب، ومنها معهد حلب، وعندما سألته عن رأيه بتسجيل صناعة العود كتراث إنساني في اليونسكو، ولماذا لا نجد سوقاً للآلات الموسيقية في حلب مثل سوق النحاسين مثلاً؟
أجابني بسعادة: اسمي ليفون نظاريان ـ عضو في جمعية العاديات، وأعتز بتراثنا اللا مادي الذي حضرت مؤتمره عندما عُقدفي مكتبة الأسد، متمنياً أن تعمل جميع الجهات كما تعمل وزارة الثقافة.
وأضاف: نعتز بفنّاني صناعة آلة العود في جميع أنحاء سورية، وفي حلب بالتأكيد، خصوصاً، وأن الموسيقيين وصنّاع الأعواد والآلات الموسيقية كانوا قديماً من فئة معينة من المجتمع الذي كان ينظر لهم نظرة ما، وكان خان “الهوكيدون” المكان الذي يجمع هذه الفئة الموسيقية المنفتحة أكثر، وأذكر أن صباح فخري كان عازفاً هاماً إضافة إلى كونه مطرباً استثنائياً، ونتمنى أن يكون في حلب سوق خاص بأدوات الموسيقا وصناعتها وكتبها ومعاهدها لا أن تظل محلات فردية متفرقة.