البعد العملياتيّ الثالث للحرب المعاصرة.. الحرب الإدراكية.. “حرب التحيزات المعرفية”
الدكتور سومر منير صالح
أعادت تكنولوجيا المعلومات تشكيل الصراع الدوليّ ومفاهيمه، ومنها مصطلح الحرب المعرفية الذي يُعدّ وليد الثورة التكنولوجية، ولم يظهر معاصراً في المعاجم السياسية إلّا خلال العامين الماضيين، الأمر الذي دعا الجنرال ديفيد ل. جولدفين (القوات الجوية الأمريكية) للقول إننا “ننتقل من حروب الاستنزاف إلى حروب الإدراك”، ما أثر على المشهد الجيوسياسيّ للعالم دون بدء حربٍ عسكريةٍ حركيةٍ. على هذا النحو، تستخدم كلٌّ من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية الفهم التكنولوجي وعلم النفس السياسيّ لشن حربٍ معرفيةٍ على دولٍ قد لا تكون مستعدةً لمثل هذه التكتيكات وحجمها. وبالتالي، فإنّ مواجهة الحرب المعرفية تتطلب عملًا مبتكرًا تنظيميًا، مدعومًا بتغييرٍ مستمرٍ في مواجهة التقنيات المتطورة.
لقد غيرت الحرب المعرفية (الحرب الإدراكية) مفهوم الصراع “تحت العتبة“، الذي سلّط الضوء عليه إدراجه في أجندة تطوير الحرب الخاصة بحلف الناتو. ففي نهاية العام 2020، نشر مركز الناتو المتخصص للابتكار والأمن الدفاعيّ (IDEAS) كتاباً عن “الحرب الإدراكية” للكاتب “فرانسوا دي كلوزيل” تقول مقدمة الكتاب: ينظر إلى العقل البشريّ الآن على أنّه ميدانٌ جديدٌ للحرب، وبذلك أصبح العمل على الدماغ، في الديالكتيك الاستراتيجيّ، عنصر الهيكلة الجديد للمعركة المعاصرة، وهو ذات المعنى الذي أكده جيمس جيوردانو على أنّ “العقل البشريّ أصبح ساحة معركة القرن الحادي والعشرين”، لذلك فإنّ حروب المستقبل ستحدث بشكلٍ مشتركٍ في ثلاثة مجالات: المادية والمعلوماتية والمعرفية، والحرب المعرفية تتكامل مع الحرب “الذكية، وتعد نقطة التقاء حرب المعلومات، والدعاية، والفضاء الإلكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي، والخوارزميات، والبيانات الضخمة، وتتجاوز بطبيعتها السيطرة على تدفق المعلومات، وتسعى إلى التلاعب أو التحكم في كيفية تفاعل الناس مع تلك المعلومات، بذلك، المجال المعرفيّ هو فضاءٌ جديدٌ للمنافسة الاستراتيجية، يتجاوز الميادين البرية والبحرية والجوية والسيبرانية والمكانية، يهدف إلى تحقيق الهيمنة المعرفية بمعنى: القدرة على فهم المعركة الجارية بسرعة واتخاذ القرارات الصحيحة.
تحشد الحرب في المجال المعرفيّ مجموعةً مختلفةً وواسعةً من الاستراتيجيات والأدوات والتقنيات، جوهرها الأساسيّ هو السيطرة على الخصم دون الاشتباك معه، من خلال استهدافه والتأثير على عقول أفراده، المدنيين والعسكريين، لذلك يشكّل إتقان المجال المعرفي ميداناً رئيساً جديداً لا غنى عنه لتوليد القوة القتالية. ومع تطور الذكاء الاصطناعيّ وعلم الأعصاب والتطبيقات الرقمية مثل وسائل التواصل الاجتماعي، سيكون من الممكن التأثير على دماغ العدو للتأثير على الإدراك البشري بشكلٍ مباشر، بهدف إخضاع العدو دون قتال، سواء بالوسائل التقنية أو المعلوماتية، تجسيداً لفكرة القتال بدون قتال، إنّ الحرب المعرفية هيّ شكلٌ غير تقليديّ من أشكال الحرب تستخدم أدوات إلكترونية لتغيير العمليات الإدراكية للعدو، واستغلال التحيزات العقلية أو التفكير الانعكاسيّ، وإثارة التشويهات الفكرية، والتأثير على صنع القرار، وإعاقة الإجراءات، مع تأثيراتٍ سلبيةٍ، على المستويين الفرديّ والجماعيّ، تستهدف العقل البشري، تحديداً الوعي والإدراك، أيّ الآليات التي تحكّم التفكير والعواطف والتجارب الحسية التي تسمح لنا بفهم العالم وتشكيل تمثيل داخليّ له والتصرف فيه في نهاية المطاف . لذلك فهو عنصرٌ رئيسيّ في عملية صنع القرار، حيث يدخل عقولنا في المنافسة وظائف مختلفة: استدلالنا البديهي، والذي يمكن تعبئته بسرعة، ولكنّه عرضة للتحيزات، واستراتيجياتنا المنطقية.
يهدف الصراع في المجال المعرفيّ إلى الاستغلال الاستراتيجيّ لهذه الوظائف المتنافسة والتحيزات المعرفية التي تحدّ من عقلانية الجهات الفاعلة المختلفة، من أجل إثارة تشوهاتٍ فكرية، وتغيير عملية صنع القرار، تستغل الحرب المعرفية الضعف الإدراكي للمستهدَفين، وتستفيد من المخاوف أو المعتقدات الموجودة مسبقاً التي تهيّئهم لقبول معلومات كاذبة، ما يجعل الحرب المعرفية مختلفةً عن الدعاية في مشاركة الجميع لها، عن غير قصدٍ في الغالب، في معالجة المعلومات وتوليد المعرفة.
ما هي التحيزات المعرفية التي تستهدفها الحرب الإدراكية؟ وكيف يتم استهدافها؟
في أوائل السبعينيات من القرن الماضي قدّم عاموس ديفرسكي ودانيال كانيمان مصطلح “التحيز المعرفي” لوصف أنماط ردود الفعل المنهجية للناس، والتي يزعم أنها مؤثرة على مشاكل الحكم واتخاذ القرار، هذه ظواهر نفسية تجنح لتغير المعلومات التي تلتقطها الحواس وتشوه الواقع، وهيّ اختصارات يستخدمها العقل، عندما يحتاج إلى اتخاذ قرار بسرعة، تستهدف الحرب الإدراكية التحيزات المعرفية وتعززها، طبعاً يجب التمييز بين مسألتين: الحرب الإدراكية وبين علم التحيز المعرفي، الذي نشأ في العقد الماضي، حين أسست الحكومات (عقدي السيتينيات والسبعينيات) ما يسمى بوحدات التنبيه للعب على المراوغات السلوكية لتحقيق أهدافٍ السياسة، بينما الحرب الإدراكية هي استغلال لذلك العلم في سياق الحرب الخارجية وليس الأجندات المحلية. ولفهم التحيز المعرفي، قسم كانيمان الفكر البشري إلى نوعين: النوع الأول الذي أسماه (النظام 1) يدور حول التفكير السريع، يتم من خلاله الوصول إلى الاستنتاجات تلقائيًا دون تفكير، وبالتالي لا يتطلب الأمر الجهد العقليّ وعادة ما يخلق مشاعر خاطئة، النوع الثاني يسمى (النظام 2)، ويتضمن التفكير البطيء، ويتميز بأنّه مدروسٌ وعقلانيّ، ويقوم على الأنشطة العقلية التي تتطلب المزيد من الجهد ويتم تنشيطها وتطويرها فقط من خلال الأنشطة التي تتطلب جهداً عقلياً. وبحسب كانيمان، فإنّ النوع السائد من التفكير حول العالم هو النوع الأول، حيث يميل معظم البشر إلى ارتكاب الأخطاء بسبب التحيزات المعرفية، وأبرزها:
– تأثير الهالة: التعميم الخاطئ القائم على التصورات الخاطئة.
– الاستدلال الاحتمالي: الميل إلى إعطاء قيمة أكبر للمعلومات المشحونة عاطفياً على نطاق واسع.
– تحيز الإدراك المتأخر: الانجراف نحو نتيجة الموقف.
– تأثير التثبيت: التمسك بالمعلومات المعروفة واستخدامها كمرجع، حتى لو كانت تفتقر إلى المنطق.
– أثر القطيع: الانجراف برأي أو حكم سائد.
– تحيز التأكيد: البحث دائمًا عن المعلومات التي تؤكد معتقدات المرء وترفض كل ما يتعارض معها، حتى لو كان ذلك أكثر منطقية.
– الثقة الزائدة: اتخاذ القرارات بناءً على رأيك وحدسك وحدك، مع إهمال حقيقة أنّ التعلم عمليةٌ مستمرةٌ وكذلك الحاجة إلى تنويع مصادر المعرفة.
– النفور من الخسارة: الخوف من الخسارة يحكم الكثير من السلوك البشري، حيث يفضل معظم الناس المخاطرة لتجنب الخسارة، بدلاً من جني الأرباح.
– انحياز التوافر: الميل البشري لتقدير احتمالية وقوع حدث حالي بناءً على الأمثلة المتوفرة في ذاكرتهم، وعادةً تلك التي حدثت بشكل متكرر.
– لعنة العلم: بمجرد أن نعرف شيئًا ما، نفترض أنّ كلّ شخصٍ آخر يعرفه أيضًا.
– الواقعية الساذجة: الميل البشري للاعتقاد بأننا نرى العالم من حولنا بموضوعية، وأنّ الأشخاص الذين يختلفون معنا يجب أن يكونوا غير مطلعين أو غير عقلانيين أو متحيزين.
– تأثير دانينج كروجر: كلّما قلت معرفتك، زادت ثقتك بنفسك، وكلما عرفت أكثر، قلت ثقتك بنفسك، وهو انحياز معرفي، يشير إلى ميل الأشخاص غير المؤهلين للمبالغة في تقدير مهاراتهم.
– الانحياز التأكيدي: نميل إلى إيجاد وتذكر المعلومات التي تؤكد تصوراتنا فقط.
– انحياز المعتقد: هو ميل في التفكير المنطقي إلى الاعتماد على المعتقدات السابقة بدلاً من الانصياع الكامل للمبادئ المنطقية.
وبعد سردنا لأبرز التحيزات المعرفية لابدّ من فهم آلية تعزيز هذه التحيزات ضمن الحرب الإدراكية، فالأخيرة هيّ بالمنطق النهائي “عملية تضليل نفسيً” وإضعاف متلقي المعلومات تدريجيًا، وبالتالي توجيه الخطاب العام، وذلك لتصنيع تصدعات في الانسجام المجتمعيّ وللضرر بالثقة في المؤسسات، وزرع الفتنة والاضطرابات الدائمة لإضعاف دولة العدو من الداخل. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي وإدراجه في الهياكل الأنثروبولوجية المعقدة، والتي تهدف إلى التوسط السلوكي إلى تفاقم هذه المخاوف، يتم نشر المعلومات وتضخيمها عن قصد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار المزيفة ومنصات الإنترنت والتسريبات ومقاطع الفيديو والمعلومات الحساسة سياسياً، فضلاً عن الصور التي تم تعديلها لتكون “خارج السياق والرسوم الكاريكاتورية السياسية”، لغرض الحصول على ميزةٍ تنافسيةٍ على الخصم، والهدف الدفع بالفئات المستهدفة إلى تبني الموقف الذي يتم نشره لتحقيق أهداف إستراتيجية أو تشغيلية إضافية للجهات الفاعلة المشاركة في الحرب المعرفية بشكلٍ أكثر سهولة ودون علم تلك الشرائح باستهدافها، فالحرب المعرفية هيّ جزءٌ من “الهندسة الاجتماعية” التي تدرس العمليات الاجتماعية التي تؤثر فيها التقنيات والتأثيرات المجتمعية اللاحقة على الأفكار والتصورات والأفعال.
ختاماً، يتطلب الدفاع المناسب في سياق الحرب الإدراكية وعيًا ببدء حملةٍ عسكريةٍ غير حركية “حرب معرفية”، مع قدرة على المراقبة والتوجيه “الاجتماعي – السياسي” قبل أن يقرر صانعو الحرب التصرف، الأمر الذي يتطلب نظام إنذارٍ مبكرٍ للحرب الإدراكية، يمكن أن يساعد مثل هذا النظام في تحديد حملات الحرب المعرفية عند ظهورها، وتتبعها أثناء تقدمها.