السينما التاريخية بين رسالة مصطفى العقاد وحدوتة يوسف شاهين
سامر الشغري
جلسنا سوية نحتسي قهوتنا الصباحية، فقد كنت متشوقاً لشرب فنجان البن معها ولمشاكساتها الأنثوية، وبينما كنت آخذ رشفتي الأولى من الفنجان سألتها:
لماذا لم تحضري العرض الجماهيري لفيلم “الرسالة”، لم أرك في الصالة؟
ردت ببرود: ولماذا أحضره؟ ألم تشاهده مراراً على التلفزيون.
أجبت على الفور مبرراً: ولكن مشاهدة الأفلام التاريخية في الصالة أجمل، حيث تسمعين قعقعة السيوف وصهيل الخيول و..
قاطعتني وهي تبتسم: في المرة القادمة شاهده في البيت وأنت تضع السماعات.
ضحكت في سري وأنا أرتشف فنجاني للمرة الثانية، سارحاً مع أفكاري في هذا العالم العجيب، عالم استحضار التاريخ بغباره وأبطاله إلى زمننا عبر الشاشة الذهبية.
السينما التاريخية هي الأصعب والأكثر تكلفة، وهي في الوقت ذاته الأكثر جذبا للجمهور الذي يستهويه رؤية أبطاله المفضلين أحياء، ولكن في منطقتنا العربية ظلت الأفلام التاريخية بسيطة وساذجة تقدم في المناسبات، مع أعمال مثل ظهور الإسلام وخالد بن الوليد وكيلوباترا وشجرة الدر، حتى قُيّد للسينما العربية عملاقين نقلاها للذرى هما الراحلان السوري مصطفى العقاد والمصري يوسف شاهين.
كانا مختلفين في كل شيء رغم أن كليهما درس السينما في الولايات المتحدة وحلم أن يصنع أفلاماً يشاهدها العالم، كان العقاد يؤمن بأنه كمخرج عربي مغترب أن يرد الحملات التقليدية التي تشوه صورة العرب في الغرب، وأن يكرس كل قدراته لإظهار صورة الإسلام الإيجابية في التعامل مع الآخر وأصحاب الأديان السماوية، ولذلك رفض صناعة أفلام تعرض لسلبيات في واقعنا وعرضها في الخارج لأننا بذلك نعطيهم فرصة للتشهير بنا، فالأجانب برأيه يحبون هذه الواقعية الفضائحية.
في هذا الموضوع كانت وجهة نظر شاهين متباينة، وهنا كانت نقطة الاختلاف الأولى بين الاثنين، إذ أن مخرج “حدوتة مصرية” آمن بأن المحلية المغرقة هي مفتاحنا للعالمية، وبأن طرح قضايانا وواقعنا بسلبياته للخارج سوف يجعله يفهمنا بصورة أفضل من استعادة صورة مثالية لتاريخ ولّى وانقضى.
نقطة الخلاف الثانية بين العقاد وشاهين كانت في التعامل مع التاريخ بالعدسة السينمائية. فالأول، عبر فيلميه: “الرسالة” الذي بلغت تكلفته 10 ملايين دولار وشارك في إنجازه فريق من 29 دولة، و”عمر المختار” الذي كلف 35 مليوناً من الدولارات، وجد أن دوره كمخرج عربي تقديم التاريخ بأمانة وصدق للأجيال، انطلاقاً من إعجابه بالتاريخ العربي وعن ضرورة الاستلهام من صفحاته المضيئة، غير أن شاهين نظر إلى التاريخ بطريقة مغايرة تماماً، فعبر أفلامه التاريخية بدءاً من “الناصر صلاح الدين” ثم ما أخرجه بعده من “الوداع يا بونابرت” و”المهاجر” الذي أعاد فيه تقديم قصة النبي يوسف و”المصير” حول اضطهاد الفيلسوف ابن رشد من المتطرفين، أراد وفقاً للناقد اللبناني ابراهيم العريس أن يضعنا في سياق فكره هو لا في سياق الحدث التاريخي، وغير في حقائقه ضمن مسعاه لإعادة كتابة التاريخ.
نقطة الاختلاف الثالثة ببن الاثنين هي التمويل، فبينما بحث العقاد بصورة محمومة عن ممولين عرب لإنتاج أفلامه لأن شركات هوليود لن تنتج له أفلاماً تمجد العرب، فإن شاهين أدار ظهره للمنتجين العرب ووجد ضالته عند الفرنسيين الذين أنتجوا جميع أفلامه بدءاً من “الوداع يا بونابرت” سنة 1985.
الغريب أن هذا الاختلاف في وجهات النظر بين الاثنين لم ينجر إليه الإعلام إلا في سنواتهما الأخيرة، وخلال مقابلة تلفزيونية مع برنامج “سكوب” الشهير على شاشة mbc، انتقد العقاد في معرض إجابته عن سؤال حول أفلام شاهين التاريخية طريقة تعامله مع ماضينا، وبأنه في سعيه وراء مهرجانات الغرب وجوائزه يغير بالتاريخ بصورة تركز على السلبيات وتضخمها، مشيراً لمشهد حرق كتب ابن رشد في فيلم المصير وإلى استخدام اللهجة العامية في فيلم الناصر صلاح الدين.
رد شاهين وقتها جاء قاسياً مستغرباً هذه الحملة ضد فيلمه “المصير”، وانتقاد العقاد لـ “الناصر صلاح الدين”، في ظل عدم مقدرته على صنع فيلم عن هذه الشخصية لأنه لم يجد ممولاً عبر أكثر من عشرين سنة، ثم نعته بعبارات غير لائقة.
أنهيت شرب فنجاني وأنا غارق في المقارنة بين هذين العملاقين، ولكن صوتها قطع علي سردتي وهي تسألني:
طالما أنك معجب بالأفلام التاريخية، لماذا لا تكتب مقالاً عنها، وعن أعمال مصطفى العقاد ويوسف شاهين.
تفرست فيها كالمذهول أو المصعوق، باحثاً عما تخفيه ابتسامتها الناعمة من أسرار.