مجلة البعث الأسبوعية

لا للدعم النقدي مع أسعار  غير مستقرة بفعل سعر صرف متذبذب!!

البعث الأسبوعية ـ علي عبود

دخل موضوع الدعم دائرة الجدل مع قيام حكومة (2003 ـ 2010) باعتماد نهج اقتصاد السوق اللاإجتماعي، فالدعم كان من ثوابت السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة حتى نهاية القرن الماضي، ومن الملفت إن دخول مصطلح (إيصال الدعم لمستحقيه) في تصريحات رجال الحكومة ابتداء من عام 2005 كان في ذروة البحبوحة الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، واحتياطي كبير من القطع الأجنبي، وصفر مديونية، واكتفاء ذاتي في معظم السلع الأساسية..مما طرح حينها الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام والتعجب، وتساءل الناس حينها: “شو” القصة؟!

ولم يعرفوا الجواب إلا بعد سنوات تعرضوا خلالها إلى تخفيض قدرتهم الشرائية، وإلى تقليص ممنهج لكميات السلع المدعومة تمهيدا لإلغائها تدريجياً، مع أصوات مشبوهة تدعو جهاراً إلى اجتثاث الدعم جذرياً دون استبداله بأجور كافية لشراء الحد الأدنى من احتياجات الأسر السورية.

معزوفة مكررة

ولم تكتف حكومة اقتصاد السوق اللاإجتماعي (2003 ـ 2010) بتكرار معزوفة (إيصال الدعم لمستحقيه) في معظم الاجتماعات الرسمية وفي الندوات والمؤتمرات الاقتصادية، بل قررت تطبيقه للمرة الأولى في عام 2009 عندما رفعت سعر مادة المازوت، ووزعت معها بالتوازي ما سمي بـ (شيكات المازوت النقدية) بقيمة 10 آلاف ليرة لكل أسرة، حدث خلالها (هرج ومرج) و.. فساد!!

بعدها .. تخلّت حكومة اقتصاد السوق اللإجتماعي ابتداء من عام 2010 عن إيصال الدعم لمستحقيه نقدا، مع الانخراط الكامل بتطبيق نهج اقتصاد السوق الليبرالي المتوحش!

وتوهمنا أننا دخلنا حقبة جديدة مع الحكومات المتعاقبة منذ 2011 لنكتشف سريعا أنها تكرر المعزوفة نفسها دون ملل أو كلل (إيصال الدعم لمستحقيه) من جهة، وإمكانية استبداله من جهة أخرى بمبلغ نقدي مقطوع لكل أسرة تستحق الدعم.

وواكب كل ذلك أصوات أكاديمية مدعومة بمنظّرين جدد تروج لإلغاء الدعم السلعي بذريعة أنه منبع لا ينضب من الفساد والإفساد؟

ولم  يخطر ببال ملايين الأسر السورية حينها السؤال: هل تخطط الحكومة لإلغاء الدعم تدريجياً؟

من القسائم الورقية .. إلى الذكية!

ومع أن ما من حكومة أعلنت جهارا أنها بصدد التفكير بإلغاء الدعم، إلا إن عدم تجديد قسائم التموين الورقية  للمواد المقننة (سكر وأرز وزيت نباتي وشاي) كانت البداية الفعلية لرفع الدعم تدريجياً، وكانت الذريعة لعدم تجديد القسائم الورقية أن الحكومة بصدد إصدار بطاقة ذكية من جهة، وبأنها ستزيد كميات وحجم المواد المقننة المدعومة من جهة أخرى بما فيها المعلبات كالطون والسردين والكونسروة!

وصدقنا فعلا أن الحكومة ستفي بوعدها مع إعلان وزارة التموين أنها تستعد لتوزيع قائمة من المواد المدعومة على ملايين الأسر السورية تشمل (السكر والأرز والعدس والبرغل والشاي والزيت ..الخ) لكن سرعان ما تأجل التوزيع حتى إنجاز البطاقة الذكية المتداولة حاليا، وتأجل معها توزيع المواد المقننة المدعومة عدة سنوات مما عززّ القناعة إلى عدم العودة إلى الدعم الذي كان سائدا حتى عام 2008!

مؤشرات سلبية ومقلقة

ومرت أعوام قبل أن تُنجز البطاقة الذكية وتدخل حيز التنفيذ، وثبت بعدها أن الحكومات المتعاقبة ليست في وارد دعم المواد الأساسية كما كان الحال حتى بدايات القرن الحالي، بدليل المؤشرات المقلقة والسلبية التالية :

ـ تراجع كميات المازوت المدعوم من 1100 ليتر لكل عامل بأجر إلى أقل من 100 ليتر حاليا لكل أسرة، وبرفع أسعارها كل عدة أشهر ليصل سعر الليتر حاليا إلى 700 ليرة.

ـ تخفيض كميات السكر والرز المدعومة ورفع أسعارها عدة مرات خلال الأعوام الماضية.

ـ تقليص توزيع المواد المدعومة من كل شهر إلى ثلاث دفعات سنوياً.

ـ تقليص حصة الأسرة من 12 أسطوانة غاز إلى 3 اسطوانات غاز سنوياً.

ـ رفع سعر ربطة الخبز (الخط الأحمر) عدة مرات في العقدين الأخيرين مع صعوبات بالغة في حصول الأسرة على مخصصاتها اليومية إلا بالوقوف ساعات في طوابير طويلة أمام الأفران.

ـ رفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج الزراعي تدريجيا وصولا إلى بيعها مؤخرا بالسعر الرائج، مما انعكس ارتفاعا في أسعار المنتجات النباتية والحيوانية واختفاء مواد أساسية منها عن موائد ملايين الأسر السورية!

وبعد تقليص المواد المقننة والمدعومة ورفع أسعارها وتخفيض كمياتها لم يتوقف النقاش والجدل حول (إيصال الدعم لمستحقيه) والذي دخل إلى دائرته مجموعة من الباحثين والأكاديميين والمنظرين ليروجوا ويسوّقوا للدعم النقدي، دون أن يجيب أي واحد منهم: باستثناء الخبز ماذا بقي من مواد سلعية مدعومة في متناول القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية؟

وداعاً للمواد المدعومة!

وكلنا يتذكر أن الدكتور عمرو سالم طالب مرارا بالدعم النقدي بديلا عن السلعي قبل أن يصبح وزيرا للتجارة الداخلية، واستمر في مسعاه إلى أن تمكن من إيصال مشروع (إيصال الدعم إلى مستحقيه نقدا) القديم المتجدد إلى اللجنة الاقتصادية، التي درست تحويل كتلة الدعم المرصدة في الموازنة العامة للدولة إلى رصيد يُشحن عبر البطاقة الذكية يتاح من خلالها لكل أسرة شراء أي مادة موجودة في صالات السورية للتجارة!

ماذا يعني الشحن النقدي بالبطاقة الذكية؟

يعني أن ملايين الأسر السورية ستودع المواد المدعومة، إذ يكفي أن لا تقوم وزارة التجارة بتوفير مواد السكر والأرز والزيت النباتي سواء قصدا أم لشح بكمياتها لتدفع بحاملي البطاقة لشراء مواد أخرى سواء أساسية أم لا، بأسعار السوق، ومع مرور الأيام والأسابيع والأشهر والسنوات تتحول المواد المدعومة إلى “الزمن الجميل”، ومع ارتفاع الأسعار وتعديل سعر الصرف ستتآكل القدرة الشرائية لمبلغ الدعم النقدي، تماما كما حصل مع القدرة الشرائية للرواتب والأجور والتي تنخفض قوتها منذ عام 2011 بدلا من أن تزيد!!

وإذا كانت جميع الحكومات السابقة لم تتردد برفع أسعار المواد المدعومة بما فيها الخبز، وبتقليص كمياتها من شهرية إلى ثلاث دفعات سنوية، فإن أي حكومة سواء الحالية أم القادمة لن تتردد برفع أسعار أي مواد سواء مدعومة أو غير مدعومة إلى مستوى يتحول فيه مبلغ الدعم النقدي إلى رمزي لايقوى، مثل الرواتب والأجور، على شراء الحد الأدنى من الأساسيات!!

الخلاصة:

لقد سبق وكشف وزير التجارة الداخلية إن عدد المستفيدين من البطاقات الذكية 14 مليون شخص، فإذا افترضنا إن وزير المالية كان سخيا، أو ألزمه رئيس الحكومة برصد الـ 5000 مليار ليرة المخصصة للدعم النقدي في موازنة 2023 كاملة على مدار العام لهذه الـ 14 مليون مواطن فهذا يعني بحسبة أن حصة الفرد الواحد من الأسرة لن تتجاوز 357 الف ليرة أي 29750 ليرة شهريا وهو مبلغ  بالكاد يشتري بيضة واحدة أو نصف سندويشة فلافل عادية يوميا!!