الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

المتّة

عبد الكريم النّاعم

*لقد أصبحت المتّة والحصول عليها مطلبَ الكثيرين، وهذا ما استجرّني للكلام عنها، ولعلّ لي في ذلك عذراً، وأرجو أن يكون مقبولاً بصفته مطلباً يوميّاً للكثيرين.

* أوّل مرّة شاهدتُ فيها “المتّة” كان ذلك في خريف 1954، وكنتُ معلّماً بالوكالة في قرية تقع شرقيّ حمص، وكان في تلك القرية صاحب دكّان يبيع ما يحتاجه أهل القرية، ذهبتُ لهذا المحلّ لشراء حاجة، فوجدتُ صاحبها يرتدي البزةّ الفرنجيّة، ويلبس الحطاطة والعقال، وفي يده كأس فيه شيء لونه زيتي، ويغمس فيه ما يُشبه البسكويتة المستطيلة، يقضم منها، ويمصّ بأنبوبة معدنيّة مما في ذلك الكأس، وسألته عن اسم الشراب، فقال: “المتّة”، ولم تكن دارجة، وقد حمل معه هذه العادة من البرازيل التي هاجر إليها، وعاد بعد سنوات.

كنّا نعرف شراب البابونج، والزوفا، والختميّة، وأستميحكم عذراً في نقل ما سمعتُه يوماً ما منقولاً عن طبيب ألماني أنّه قال ما معناه عجبتُ لبلد يكثر فيه البابونج كيف يصاب أهله بالأمراض؟!!.

* انتشرت “المتّة” بداية في منطقة “القلمون”، حملها المهاجرون إلى البرازيل، والأرجنتين، وكانت طقوس شربها في البداية أن تُنقع المتّة في كأس، وتوضع فيها مصّاصة، وتُدار هذه الكأس منقولة من كفّ لكفّ مجاور، غير آبهين بما قد ينتج عن ذلك من نقل للأمراض المعدية.

* كنتُ في زيارة قريب لي في الثلث الأوّل من خمسينيات القرن الماضي، فوجدته يُعدّ المتّة، منهمكاً، قلت: “أراك منهمكاً”؟ قال: “سوف تذوق متّة غير التي تعرفها”، وأحضر جوزة متّة ووضع في أسفلها قطعة فحم صغيرة مجمَّرة، وأضاف لها قليلاً من السكّر وخضّها جيداً، ونقع المتة وقال: “تفضّل” تذوّقتها فوجدت لها نكهة لا أعرفها ولكنّها لذيذة.

* انتشرت المتّة بداية في منطقة القلمون، ومن ثمّ إلى السلميّة وأعالي جبال الساحل والساحل، ولم تكن معروفة في المدن، ولا لدى البدو، وانتشرت فيما بعد حتى في بعض المدن.

أحد البدو دخل مجلساً حضريّاً فوجدهم يشربون المتة، فسأل عنها فسمّوها له، وصبّ له أحدهم كأساً محلّى بالسكّر، فتناولها، وحين انتهى منها أصدرتّ صوتاً، فأجفِل البدوي، وقال ممتعضاً شاتماً كلّ من شربها، فضحكوا وسألوه: لماذا؟ قال بلهجته البدوية: “الله ياخدها وياخد كلّ من شربها.. تاليها تعفّط عند شارب الزّلِمة”.

* زار جار جاره الشيخ، فهيّأ متّة للاثنين، وأراد الزائر أن يثني على الضيافة، فقال لمضيفه: كأنّ سكّركم أحلى من سكّرنا، فتبسّم المَزور: وقال: “لا عين عمك، معلقتنا أكبر”.

* صار للمتّة في حياة الناس طقوس، فيُفترض فيمن يقدّمها، ولاسيّما حين تكون جلسة نسوان، فعلى المَضيفة أنْ تُقدّم المتّة، وبزر دوّار الشمس، والدخان.

* أيام كان حصاد الموسم بالمنجل صار على صاحب الأرض أن يُقدّم للحاصود الطعام، وباكيت دخان، حتى وإنْ لم يكن مدخّناً، والمتّة.

* أحد المولعين بشرب المتّة فجأة أقلع عنها، فسُئل عن ذلك فقال: أُتيح لي أن أرى أماكن تعبئتها فوجدت الجرذان والفئران ترتع فيها بكثرة، فقرفت من ذلك وطلّقتها.

* في منتصف ثمانينيات القرن الماضي دُعيتُ للمشاركة في مهرجان جرش في الأردن، وكنتُ من شرّيبي المتّة آنذاك، أشربها عصر كلّ يوم، وحين جاء عصر ذلك اليوم شعرتُ بريقي يتحلّب، وهذا يعني حالة من الاعتياد، وليس في الفندق متّة، فقرّرتُ الإقلاع عنها، وكان ذلك.

* ثمنُ علبة المتّة الآن، في المحلاّت التي تُوزَّع عليها، قرابة السبعة آلاف ليرة سوريّة، وخارج هذه المحلاّت ثمنها ستة عشر ألف ليرة سوريّة، ولك أنْ تتصوّر كم سيدفع ربّ الأسرة في هذه الظروف التي نعيشها!.

aaalnaem@gmail.com