مجلة البعث الأسبوعية

تحديد المسار الزمني لمعاون الوزير والمدير العام وأمين عام المحافظة.. خطوة بالاتجاه الصحيح.. وتقويض للفساد الإداري

البعث الأسبوعية

سأل أحد المتوجسين من الفساد الإداري في جلسة حوارية يديرها خبير في علم البرمجة اللغوية العصبية سؤالاً لا يعبر عن براءة سأله، الذي تقصّدَ بطرحه للسؤال لفت أنظار الحضور لحقيقة وجوهر الفساد الإداري المستشري في كيان هيكلنا الحكومي، ومفاد السؤال: ماذا يعني أن يبقى مديراً عاماً أكثر من عشرين سنة في منصبه؟ ورغم تفاوت الأجوبة والآراء المتشعبة حول هذا الموضوع، إلا أن أياً منها  لم يشير ولو إشارة بسيطة لخبرة وكفاءة هذا المدير النادرة.. ما يعني أن الأمر مرتبط بنواحي لا علاقة لها بمعايير معينة تحدد أن هذا المدير المناسب في المكان المناسب، وإنما بنواحي لها علاقة بمعايير غير شرعية  تفتح الباب لفساد مشرعن إن صح التعبير، لاسيما وأن لكل إنسان طاقة على الإبداع والتطوير، وحسب علم الإدارة فإن طاقة أي مدير في تطوير إدارته تستنفذ بعد خمس سنوات وسطياً، وبعدها لابد أن يشحذ تفكيره ويصقل خبرته بآليات جديدة تساعده على مواكبة تطورات العمل الوظيفي، وإلا سيجتر ما قدمه من أفكار لإدارته دون أن يأتي بجديد، وتكون النتيجة مزيداً من الترهل والحكم على المؤسسة بالموت البطيء!.

في المسار الصحيح!

ويأتي قرار رئيس مجلس الوزراء القاضي بتحديد المسار الزمني لكل من معاون الوزير والمدير العام وأمين عام المحافظة، كخطوة برأي الكثيرين في المسار الصحيح، ويعوّل عليه للحد من الفساد الإداري كونه لم يترك المسار الزمني لهذه المناصب مفتوحاً، إذ قضى القرار بأن تبلغ مدة المسار الزمني لمعاون الوزير 7 سنوات، ويتكون من أربع ولايات إدارية مدة كل منها عامان عدا الولاية الإدارية الأولى مدتها عام واحد، ويجوز إضافة ولاية إدارية خامسة مدتها عام واحد فقط.

وتبلغ مدة المسار الزمني للمدير العام وأمين عام المحافظة –حسب القرار- 5 سنوات، ويتكون من ثلاث ولايات إدارية مدة كل منها عامان، عدا الولاية الإدارية الأولى مدتها عام واحد، ويجوز إضافة ولاية إدارية رابعة مدتها عام واحد فقط، مع مراعاة التشريعات الخاصة ببعض الجهات العامة.

كما قضى القرار بعدم جواز التبديل أو إنهاء التعيين ضمن مدة الولاية الإدارية، ما لم يقم سبب يحول دون بقائه في مركز عمله. واعتبر القرار أن مدة المسار الزمني واحدة، وفي حال الانتقال ضمنها بين جهة عامة وأخرى تتم إضافة ولاية إدارية رابعة مدتها سنتان لتصبح مدة المسار الزمني 7 أعوام.

قرار جريء!

الدكتور زكوان قريط / كلية الاقتصاد – اختصاص إدارة/، اعتبر أن القرار جريئاً وصائباً، مقترحاً أن يتم إصدار قرارات أخرى تعدل باقي المسارات الزمنية لمعاوني المدراء وشاغلي مناصب الإدارات الوسطى ليتم اكتمال سلسلة أو حلقة التضييق على الفساد الإداري.

وأشار قريط إلى أنه في علم الإدارة يعتبر المدير أو أي شخص يشغل منصب في الإدارة العليا قد أعطى كل ما يملك من إبداعات وتطوير في المنظمة التي يعمل فيها وذلك لمدة ثلاث سنوات، وبعدها سيبدأ المسار الإبداعي والتطويري للمدير بالاستقرار والثبات، وبعدها يبدأ بالتراجع.

وبيّن قريط أن مدى الثلاث سنوات مدة كافية لإعطاء صاحب المنصب فرصة للتحديث والتطوير وإطلاق الأفكار والمهارات الإبداعية وإحداث تغيير إيجابي في المنظمة أو المؤسسة، مشيراً إلى أن هذا كله يصب في إطار مكافحة الفساد والترهل الإداري في معظم إدارات القطاع العام.

نظم خبيرة

لم يخف قريط احتمال وجود من ينتقد هذا القرار كأصحاب مدرسة الخبرات المتراكمة والمعارف القديمة، ولكن وحسب علوم الإدارة الحديثة يمكن الاستفادة من الخبرات السابقة عبر تشكيل مجالس استشارية أو وضعها في إطار نظم معلوماتية تسمى النظم الخبيرة تساعد أصحاب المناصب وتقدم لهم الدعم اللازم باتخاذ القرار، وكذلك تقديم الأفكار واقتراح المبادرات اللازمة في الحالات الاستثنائية.

محسوبيات وامتيازات

عناوين كثيرة تندرج تحت موضوع طول فترة البقاء في المنصب، ليس أولها المحسوبيات ودورها برفد المفاصل الحكومية بكوادر غير كفوءة، وليس آخرها الحصول على امتيازات من تحت الطاولة لمسؤولين آثروا المصلحة الشخصية على العامة، ولو أسلمنا جدلاً أن خبرة صاحب المنصب المُعمِرْ هي بالفعل نادرة الوجود وتستدعي أن نتمسك به حتى يدير دفة القيادة ليصل بمؤسسته بر الأمان، ألن يصل هذا المدير (النادر الوجود) يوماً ما إلى درجة كبيرة من الروتين العملي تدفعه –على أقل تقدير- لطلب نقله لمكان آخر يجدد فيه حيويته العملية، وينهل معرفة وخبرة جديدتين ويتعرف على موظفين جدد يضافوا إلى قائمة علاقته المهنية والاجتماعية؟ أم أن التمسك بالكرسي يقوقع الشخص على ذاته ويجعله يخشى من المجهول واقتحام أجواء أخرى يتكيف معها؟ خاصة وأننا نعيش عصراً متسارعاً بتطوراته اللحظية ومن لا يواكبها -ولو نسبياً- يجد نفسه في واقع غريباً عنه، يصعب عليه مجاراته.

اعتبارات ثلاثة!

يؤكد قريط أن بعض المدراء أمضوا أكثر من 25 سنة في مناصبهم ولا يزالون بيّن أن سبب طول فترة وجودهم يعود لثلاث اعتبارات لا رابع لها، أولها أنهم ذو نفوذ كبير لدى الجهات العليا، والاعتبار الثاني أنهم ينفذون توصيات وتعليمات وأوامر هذه الجهات دون أي نقاش (كعبد مأمور) أما الاعتبار الثالث وهو مستبعد جداً –برأي قريط- أنهم يتمتعون بكفاءات وخبرات نادرة ليس لها مثيل..!

علم وفن

تصنف الإدارة بأنها علم وفن، فهي علم كباقي العلوم يعتمد على نظريات وفرضيات مبرهنة وموثقة، يجب على كل مدير الإلمام بها، وهي فن بمعنى أن لكل مدير أساليبه ومهاراته الخاصة بالتعاطي مع التحديات والمشاكل التي تواجهه أثناء القيام بالمهام المناطة به، لذلك كلما زادت سنوات خدمة المدير –حسب قريط- قد يزداد معها خبرته العملية فقط دون العلمية، ما يعني ضرورة إفساح المجال لجيل الشباب ليقدموا ما بحوزتهم من أفكار تطويرية جديدة تخدم سير العمل، لا أن تبقى الإدارة رهينة لأفكار أكل الدهر عليها وشرب.

الفساد بعينه

اعتبر قريط أن بقاء المدير العام في منصبه فترة طويلة هو الفساد بعينه، فلا يوجد في كبرى الشركات العالمية مدير يبقى في منصبه أكثر من عشر سنوات، وغالباً ما تتراوح المدة ما بين 5 -6 سنوات، وتجاوز هذا الحد يشير إلى وجود امتيازات مادية ومعنوية غير معلنة تثير الكثير من الشبهات، خاصة وأن الامتيازات المعلنة لم تعد مغرية كما كانت سابقاً، كالسيارة –على سبيل المثال- التي أصبح من السهولة –نسبياً- الحصول عليها، مشيراً إلى أن أخطر تداعيات ذلك تتجلى بتشكيل منظومة فساد مرتبطة بصاحب المنصب شخصياً كتفشي المحسوبيات والمحاباة في إدارته، ما ينعكس سلباً على أداء العمل، خاصة وأنها تقضي على روح المبادرة لدى العاملين نتيجة إتباع سياسة الباب المغلق، والمبالغة في تقارير الأداء لبعض الموظفين على حساب الآخرين، ناهيك عن الترهل الإداري والابتعاد عن الابتكار والتطوير خوفاً من فقدان بعض المزايا.

تجارب عالمية

تؤكد التجارب العلمية أن الأشياء المادية العضوية منها وغير العضوية تتأثر بالمحيط الموجودة فيه، فكما أن بقاء التفاحة فترة طويلة تحت أشعة الشمس يفسدها، فإن الجبال والوديان تتأثر بعوامل الحتّ والتعرية نتيجة الظروف المناخية المتعاقبة عليها، كذلك الأمر بالنسبة للإنسان الذي يتأثر بمحيطه الاجتماعي والمهني، سواء سلباً أم إيجاباً، وفي هذا السياق يؤكد المختص بالإدارة الإستراتيجية علي حسن أن طول فترة بقاء أي مدير في منصبه كفيلة بإفساده جسدياً وفكرياً خاصة إن اعتاد على روتين معين دونما أي تطوير لمهاراته، لذلك يلجأ اليابانيون إلى اعتماد طريقة تبادل الأدوار، والتي تقتضي وجوب التنقل المستمر للموظفين بين المناصب، بحيث يطلع كل واحد منهم على طبيعة عمل الآخر وحيثياته، ما يجعلهم أكثر تجديداً لمهاراتهم وقدراتهم الإدارية، وأكثر تواصلاً لمعرفة مشاكل بعضهم البعض المهنية والعملية، وبالتالي يتعاونون على حلها في حال اعترضت أياً منهم.

واعتبر حسن أن للمنظومة الثقافية الاجتماعية دوراً كبيراً في هذا الأمر على اعتبار أن من يعتلي منصباً عالياً في الدولة، يخشى نظرة المجتمع إليه في حال تخلى عنه، ما يدفعه إما للتمسك به قدر المستطاع، أو البحث عن منصب أعلى.

ربط

وربط حسن نسبة انتشار هذه الظاهرة وعدمها بمدى قوة وضعف الاقتصاد الوطني في أي بلد، فعندما يكون الاقتصاد قوياً ونشيطاً جداً ومعززاً بمؤسسات فاعلة تعمل وفق مبدأ الإدارة بالأهداف، تقل نسبة من يحبذ التمترس بكرسي المنصب لفترة طويلة، لأنه -ووفقاً لتفكيره الإنساني- يندفع للبحث عن عمل آخر في مؤسسة أخرى بهدف التخلص من الروتين أولاً، والبحث عن التجديد والتطوير الذاتي عبر الإلمام بخبرات جديدة بغض النظر عن الدخل المادي ثانياً، مضيفاً أن عدم وجود منصب آخر يتناسب مع إمكانيات مدير ما –في بعض الأحيان- قد يكون أحد أسباب تمسكه بمنصبه الحالي.

اختزال

لعل لوحات الشرف المعلقة في معظم أروقة مؤسساتنا وإداراتنا العامة تختزل إجابة طويلة على السؤال المطروح في البداية، كونها تحمل أسماء من تربعوا على رأس هرم المؤسسة لحظة انطلاقها حتى تاريخه، والمراقب لها يجد تفاوتاً كبيراً بالفترات الزمنية لكل ولاية، حيث تتراوح من سنة إلى عشرين سنة أو يزيد، مع ملاحظة تسطير تاريخ تولي المدير الأخير مع بقاء سقف الفترة الزمنية مفتوحاً..! وربما في ذلك إشارة ما تدل على أن فترة الولاية ربما تستمر لعقود من الزمن..! دون وجود أدنى معايير للبقاء في المنصب.