ســـارقـــــو الزمـــــــــــن
د. مهدي دخل الله
لعله نوع غير معترف به من الفساد عندنا . فالوقت كما يقولون في علم الإدارة مال (Time is money ) . هذا شعار معروف في الغرب ، ويكاد يكون معياراً أساسياً للعمل .. ذّكرني بهذا المصطلح الدكتور إياد حسن ، وقد تعرفت عليه أثناء مراسم تعزية جورج وسوف في الكفرون .
في الغرب يقولون أن الوقت مال عندهم ، ويستهزؤون من الدول النامية ( إقرأ المتخلفة ) بأن الوقت عند هذه الدول محط السخرية والنكتة ( Joke about time ) ، فالوقت لا قيمة له أبداً ..
اذا كان من المقرر أن يبدأ الاجتماع العاشرة صباحاً فهو يبدأ في الحادية عشرة . إضافة إلى ذلك ، فإن غالبية الاجتماعات لا تحتاج لأكثر من ساعة ، لكنها تمتد إلى أربع أو خمس ساعات . لماذا ؟ لأن كل متحدث يبدأ بتعابير الشكر ، ثم مقدمات طويلة ليس لها علاقة بالموضوع ، وإنما الهدف منها أن تُظهر صاحبنا فهيماً في كل شيء . إنه نوع من أنواع « خطاب الأستذة » المقيت ، فإذا كان الموضوع المطروح مناقشة سعر صرف الليرة ، أسبابه الموضوعية ، يبدأ المتحدث بالامبريالية والاستعمار ، وقد يتحدث عن سقراط ومكيافيللي أو عن الحرب العالمية الثانية أو عن الحرب الاكرانية ، وربما يصل إلى الصراع العربي الاسرائيلي ، وقضية تايوان .
ثم يأت بعده زميله ويعيد القصة نفسها ، وعندما يذكر الصراع العربي الاسرائيلي لا ينسى توضيح أن فلسطين يحدها من الشمال لبنان وسورية ومن الشرق الأردن .. إلــــخ . وعندما يتحدث عن العروبة يبدأ بهجرة القبائل العربية من اليمن وعن الغزوات التي تعرضت له بلادنا في التاريخ .. وهكذا يخرج المجتمعون تعبين بعد ساعات ، دون أن يعرفوا ماذا ناقشوا ، ولأي شيء توصلوا ..
وهناك أشكال أخرى من سرقة الوقت مشهورة في بلادنا وفي بلاد العالم الثالث بشكل عام . عندما يستلم أي مسؤول السلطة ، سواء في الإدارات الاقتصادية ( القطاع العام ) ، أو في الإدارات العامة ، أو في الحكومة ، يكون همه الوحيد أن تنتهي فترة سلطته دون أن يخطئ . أي مبادرة أو تغيير بمنظومة العمل ستعرضه للخطأ ، فالأفضل أن لا يبادر ، وإنما أن يستمر على خُطى من سبقه الذي استمر على خُطى من سبقه في سلسلة ماضوية طويلة ..
لاشك أن سرقة الوقت ليست مهنة الجميع . هناك مبادرون يتركون أثراً جلياً على « مقعدهم » . أذكر ، على سبيل المثال لا الحصر ، المرحوم د. محمد العمادي الذي استلم دفة اقتصادنا قادماً من رئاسة الصندوق العربي للإنماء في الكويت . استطاع الرجل الارتفاع بالاقتصاد من أزمات مستعصية إلى مراتب متقدمة على الرغم من أن فترة وجوده في الوزارة ( 1985 – 2001 ) كانت فترة تقلبات نوعية على مستوى العالم .
لم يسرق العمادي الوقت كما يفعل البعض خوفاً من الخطأ ، وإنما استفاد من كل ساعة من ساعات قيادته للاقتصاد فأجاد في أمانته تجاه الوقت ، وبقي ذكره حميداً حتى اليوم ..
mahdidakhlala@gmail.com