على لسان ذئب جائع.. جرجس حوراني: تقاليدنا لا تسمح بالانقضاض إلّا على ما هو ضروري لبقائنا!!
نجوى صليبه
في مجموعته القصصية “اليوم الأخير من حياة ذئب” الصّادرة عن اتّحاد الكتّاب العرب في عام ألفين وثمانية، يعطي القاصّ والرّوائي الدّكتور جرجس حوراني مساحة كبيرة لحيوات الحيوانات، كما في القصّة التي تحمل العنوان ذاته، والتّعلّم منها كما في “ذاك الصّهيل”، ففي الأولى يتحّدث بلسان ذئب أبيض أنهكه الجوع، وكاد يفتك فيه بسبب الثّلوج التي حاصرت المكان ومنعت البهائم من مغادرة حظائرها، إلى أن وصل إلى زريبة مهملة فيها القليل من الثّغاء، وهناك يرى شاباً وفتاة في عمر الورود يستلقيان على التّبن وقد استسلما لحبّهما، وبالقرب منهما نعجتان تطلقان الثّغاء على إيقاع هذا الحبّ.. يستغرب الذّئب من حقيقة وطبيعة الإنسان، ويتساءل كيف لا يخجل من كذبه أو عدوانيته، لكنّه يخجل من الحبّ، يقول: ما هذا المنطق الذي يسير عليه؟ كيف يكرّم القتل ويسمّي القاتل بطلاً؟ بينما يمنع الحبّ حتّى يضطر أن يمارسه في الزّرائب بعيداً عن المساكن؟.. مشهد يدفعه للمقارنة بين قطيعه والبشر بالقول: تقاليدنا لا تسمح بالانقضاض إلّا على ما هو ضروري لبقائنا، هل نتنكر لتراثنا الذي يعود إلى ملايين السّنين؟ إذاً نصبح مثل البشر الذين يغيّرون ويبدلون من تراثهم حتّى لم يبق عندهم تراث يركنون إليه.
وأّما في الثّانية، أي “ذاك الصّهيل”، فمذ دخل الحصان الأبيض، الذي اشتراه “حنّا” لكي يسمّنه ومن ثمّ يذبحه ويوزّعه على الفقراء، داخل سور المزرعة صار شرساً يضرب بقائمتيه كلّ شيء، حتّى “حنّا” الذي رهن نفسه لترويضه لم يسلم منه، بل إنّه تطبّع بطباعه وأصبح يقضي معظم وقته في رعايته، ما ضاعف المسافة بينه وبين زوجته “شاليمار” التي كانت تتمنى أن يأتي الحصان الذي تحدّث عنه العرّاف المغربي ويبشرهم بحملها بطفل لم تزرق فيه بعد مرور أكثر من سنتين على زواجهما، إلى أن جاءت الليلة التي استيقظت فيها وفتحت بوابة الزريبة للحصان الشّرس، وانطلق بسرعة البرق، وخلفه انطلق زوجها وغاب لبعض الوقت، ليعود وكأنّه أدرك غايته، قائلاً: لقد علّمني الحصان العاشق درساً، كنت أتمنّى لو فعل هذا قبل زمن طويل.. لقد امتلك بفضل الحبّ قوّة إضافيةً جعلته يهرب منّي ويصل إلى حبيبته التي كانت تنتظره.. اخرجي من القبو زجاجة النّبيذ التي ناف عمرها على العشرين.
في هذه المجموعة، يكسر حوراني الشّكل التقليدي للقصّة، فيبدأ “رائحة الزّيزفون” وكأنّه يكتب سيناريو مسلسل تلفزيوني، فيقول: نهاري داخل القصر، وخارجي ـ القصر مساءً، وفي “الصّباحات المريرة” نراه يرقّم القصص وكأنّها منفصلة مع العلم أنّها متّصلة.
“مصعد السّاعة الرّابعة” مجموعة قصصية أخرى لحوراني، صادرة عن الهيئة العامة السّورية للكتاب في عام ألفين وخمسة عشر، وفيها ينتقل إلى مواضيع أكثر حساسيةً، فيخوض في فساد إداري قضى على حياة “البطل” الذي كان يحلم برفع علم بلاده في البطولة العالمية للمصارعة، فقد انتصر على خصمه، ورفع علم بلاده، واحتفل الفريق المرافق بالنّصر الكبير، في حين ارتدى أهله السّواد، حزناً على شبابه الذي لم تقضي عليه الضّربة القاضية بل إبرة هرمونات أعطاه إياها الطّبيب بإصرار الفريق الذي تكفّل بإعطائه اثنتين سرّاً في غرفة الملابس، وأمّا الخبر الرّياضي فجاء “رحيل البطل إثر نوبة قلبية”..
ويخوض حوراني أيضاً في هذه المجموعة في قضايا اجتماعية ثقافية في بيئة أخرى غير تلك التي شغلته في المجموعة السّابقة، وإن كان فيها تكرار لبعض الأفكار كالعرّاف المغربي والذّئب الذي يقلق أهل القرية، فتحت عنوان “ثرثرة أقلام” نجول مع “بدري خواجا” في أرجاء مكتبته الملكية التي تأسست عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين في بناء قديم بأحد شوارع إنكلترا، ونتعرّف من خلاله على أنواع فاخرة لأقلام لم يستخدمها قطّ فالبعض كان يقول إنّه أمّي، لكنّ لديه قدرة كبيرة على لإقناع زبائنه في شرائها، وفي مرّات كثيرة كان يبيع القلم ذاته إلى صاحبه القديم، إلى أن جاء اليوم الذي أغلق فيه مكتبته بسبب ظهور الحواسيب، حينها فكّر بأنّ هذه الأقلام ستصبح يوماً ما شيئاً نادراً، من دون أن يخطر في باله القرار الذي يصدر لاحقاً بتأميم كلّ الآثار القديمة.
وفي الحياة، والأخذ والعطاء، والعقاب والمكافأة، يقصّ حوراني “الحلم” الذي يخطف نوم وراحة رجل ثري لا يوفّر مالاً ولا يترك طبيباً ولا نذراً للتّخلص منه، لكن من دون جدوى، وأخيراً تنصحه زوجته بالتّبرّع ببعض ماله للكنيسة، ويعمل بأكثر منه، إذ يبني كنيسةً كبيرةً بتصميم ينال عليه جائزة كأعظم صرحٍ في البشرية.. إنجازٌ يمنحه الرّاحة والسّكينة لوقت قصير، وباستغراب وقلق يسأل زوجته لماذا لا يوجد مشفى لعلاج الإنسان من أحلامه، لكنّها تنطق بما لا علاقة له بالموضوع، وتقول: آه تذكّرت.. أخبرني سائقك أنّه لن يلتحق بعمله اليوم لأنّه سيبقى مع أمّك في المشفى الذي نقلت إليه بحالة إسعافية.. وهو بدوره تذكّر أمّه التي نقلها إلى دار للمسنين منذ سنوات عدّة ولم يزرها خلالها سوى مرتين، فكان ردّه: “سوف أذهب إلى المشفى وأرسل إليك السّائق”.
موضوع عقوق الوالدين وانتقام القدر والحياة من الأبناء ليست بجديدة، لكن حوراني تناولها بأسلوب مختلف ونهاية غير متوقّعة لا تظهر سوى في آخر السّطور، مثلها مثل “الدقائق الأخيرة” التي قضاها شاب قبيل لقائه بصاحبة العمل الذي رضي فيه على مضض، على الرّغم من كونه لا يتناسب ودراسته، لكنّه اقتنع بقول والدته إنّ العمل ليس عيباً، وهناك في قاعة الاستقبال الكبيرة استرجع أّيّام المدرسة والنّصائح التي كان يقدّمها معلّموه له ولزملائه حول الحياة والعمل والأخلاق والمبادئ والالتزام فيها، ويفكّر: الآن أنتقل من معلم للجيل إلى راعٍ للبقر.. ذكريات وأفكار كثيرة راودته، وأخيراً قطعها دخول سيّدة فائقة الجمال، أنساه وجهها وجوه كلّ النّساء اللاتي عبرن ذاكرته خلال انتظاره الطّويل.
“ما بيغلب الحرب إلّا الشّرب” قالها فارس أحد أبطال فيلم “سفربرلك”، و”بالعبث.. لا شيء يقهر العبث إلّا العبث، ونحن نعاني أكبر موجة عبث في تاريخ البشرية” قالها سعيد أحد الرّجال الذين قابلهم حوراني في خلال الحرب التي عاشتها سورية، ومن بين هذين القولين اختار الثّاني لأنّه ـ وبحسب ما يوضّح ـ أكثر صحّة وديمومةً من الأوّل، فقرر أن يمسك القلم ويمارس العبث، عائداً إلى أيّام مضت من حياته وتذكّر منها ما يمكن أن يولّد طاقة إيجابية وجمعها في إصدار واحد، وهذا ما يمهّد فيه حكاياته الصّادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب عام ألفين وتسعة عشرة تحت عنوان “ورق أيلول”، وفي مائتين وست عشرة صفحة يحكي حوراني واحداً وستين حكاية مختلفة المواضيع والأهداف والشّخصيات، وهذا ما يمكن أن نلاحظه من عناوينها، مثلاً لدينا العناوين التّالية: “أحلام عدنان بوظو” و”بدنا إياها تخلص” و”الله والطّفل” و”نقّ تركي” و”الدّبلان وفنجان الحب” وفيه يحكي قصّة شارع مشهور في مدينة حمص، ما يزال محافظاً على اسمه “الدّبلان” على الرّغم من تعليق لوحة مكتوب عليها “شارع المتنبي” والتي انمحت مع مرور الوقت، وبقي “مقهى الدبلان” بالاسم ذاته يقصده العشّاق وغير العشّاق، وهو مقهى جاءت شهرته بسبب مغنية وراقصة برازيلية عملت فيه أكثر من ثلاث سنوات،كانت تعد كلّ من يضحك بفنجان قهوة يجعله شاباً طوال عمره، يقول: “بفضلها تحوّلت هذه المدينة إلى أكثر مدن العالم شهرةً بإنتاج النّكت”.
يذكر أنّ جرجس حوراني من مواليد حمص وهو طبيب في الأمراض القلبية، وله مجموعة قصصية ثالثة “الخيول المسافرة” صادرة عن وزارة الثّقافة في عام ألف وتسعمائة وستة وتسعين ورواية “باستت” صادرة عن الهيئة العامة السّورية للكتاب في عام ألفين واثنين وعشرين.