متفائلون بالعام الجديد
بسام هاشم
يدخل السوريون عامهم الجديد وسط أجواء أقرب إلى التفاؤل.
لقد كان عام 2022 صعباً وقاسياً، فقد عرفنا الضغوط والحصار الاقتصادي في أبشع صوره حقداً وإجرامية، وشهدنا الأزمات المعيشية المتتالية واليومية، فإن كانت للعام الفائت ميزة إيجابية ما، فهي أنه فتح أعين الجميع على أهوال الحرب بأكلافها المتأخرة وتداعياتها البعيدة، وربما مكّن لأول مرة، وبمثل هذه الحدّة، من إحداث المواجهة الذاتية التي طال انتظارها، والتي من شأنها بلورة إرهاصات وعي سياسي وأخلاقي وقانوني حقيقي وإيجابي ينطلق من القراءة الصحيحة والموضوعية لتطوّرات السنوات الإحدى عشرة الماضية، ويضع الأمور في سياقها الإقليمي والدولي الصحيح، ويبني على الاعتراف بالمسؤولية الفردية والجماعية عمّا حدث، بمعنى إشهار “إعلان حقائق” شامل بالحرب “المؤامرة” التي عصفت بسورية، والقوى الداخلية والخارجية التي خطّطت ومهّدت لها، وراهنت عليها، وشاركت فيها، وعملت على امتدادها في الزمان والمكان.
فنحن في مواجهة حالة غير مسبوقة من “وعي” تاريخي مستلب يكاد يفرغ ذاته تلقائياً من أية ذاكرة “وطنية” صلبة، ملهمة أو محفزة، وهو وعي يتهيّأ للدخول في مرحلة ما بعد الحرب دون أي دروس مستفادة، بل يكاد يبيح لنفسه جملة من المحظورات والمحرّمات انطلاقاً من دعاوى وضرورات الاستمرار.. بمجرد العيش.
لقد ربّى بعض هؤلاء، وربما عن نيّات مبيّتة ومدروسة، نوعاً من الحيادية الملغّمة، وطوّروا مشاعر مسطحة تشي بالكثير من الخدر الوجداني والوطني لكي يصبّوه في قنوات هزيمة تحققت على الأرض، وفي الميدان، ولكنهم لا يريدون الاعتراف بها، وتصالح يعرفون أنه كاذب ولكنهم ماضون في الانخراط به، وهم اليوم تحت لافتة عودة “كل الأبناء” إلى “المربع الأول” – نقطة 2011- إنما يرغبون بمحو أكثر من عقد من عمر سورية والسوريين بجريرة ما يسمّونه “خطأ في الحسابات”، أو “أخطاء مشتركة”، وربما على سبيل الهدنة والاستعداد لجولة ثانية من الارتكابات والفظائع.. إنهم يريدون اليوم شعباً سوريّاً منتزع الأنياب ومفتقداً لـ”الروح العدوانية” التي تسمّي الأمور بمسمّياتها الصارخة مهما انحرفت وغلظت، ولا تمسح عن المجرمين والقتلة سواد صفحاتهم، ولا تصفح لهم عن اقترافاتهم البشعة.. شعباً سورياً سريع النسيان بذاكرة ضيقة ومحدودة.. شعباً وادعاً لا يؤمن بالانتقام، ولا يحب رائحة الدم حتى لو كان عطراً زكياً.. شعباً يعشق عروبة كرة القدم وإسلام المونديالات، ولديه قابليات التمتع بما أبقوه له من “قابليات العيش” المكسور، وبما خلّفوه وراءهم من بقايا دمار ومآسٍ وكوارثَ اجتماعيةٍ واقتصادية وروحية وإنسانية.
لقد جلت الحرب المعدن النادر والكريم الذي صاغ وهج الملحمة السورية الفريدة، بشهدائها الأفذاذ، المدنيين والعسكريين، الصغار والكبار، الذين ارتقوا إلى مكانة القديسين والأنبياء الأوائل، بشجاعتهم وتفانيهم وفدائهم لوطنهم، لكن الحرب أفرزت بالمقابل أفواجاً من الانتهازيين والأنانيين والمتكسبين والرخيصين الذين أجادوا ركوب الموج حتى لو على حساب مصالح أوطانهم.
ولكن.. وسواء أكانت الحكومة تمكّنت من شرح ظروف وملابسات الأزمة بأبعادها الداخلية والخارجية، أم أن الأمر جاء أشبه بضربة من غير رامٍ، فإن أغلبية السوريين استشعرت الخطر الجدي خلال الأسابيع الأخيرة من 2022، على الأقل، وبلورت رأياً عاماً أقرب إلى الاستيعاب والتفهم.
وإذا كان يمكن وسم تلك اللحظة بـ”التأسيسية” للشروع ببناء وعي محايث ينهض على استيعاب عمق التجربة السورية خلال الحرب في جوهرها النضالي والكفاحي – نضالي وكفاحي بكل معنى الكلمة- فإن مثل هذا الوعي ينبغي أن يمتدّ ليطول بـ”عدوانيّته” كل من تطاول وأجرم بحق سورية في لحظة “الحسابات الخاطئة”، دون أن يعني ذلك أبداً إعلان القطيعة مثلاً، أو انتهاج العزلة، بل الغوص في أدق التفاصيل والمعطيات والمصالح المتبادلة، وانتزاع الحقوق كاملة، والامتلاء بذلك الشعور الضروري لبناء الأمة.. ألا وهو ممارسة العدوانية الإيجابية كقوة تطهير وتحرّر في مواجهة أعداء أظهروا دائماً أنهم يفتقرون إلى القيم الإنسانية الأساسية.
بلى.. يحق للسوريين التفاؤل لأنهم الجبابرة الصامدون الذين قهروا بتجذّرهم الحضاري الأصيل أعتى القوى الإمبريالية والرجعية، بكل ما انطوت عليه من جنون بدائي وجبروت متوحّش، ومن غدر وتخلّف وعنصرية، وعجزت – هذه القوى- عن كسر إرادتهم وتحطيم إيمانهم وثقتهم بوطنهم وجيشهم وقائدهم، ولكنه سيبقى التفاؤل المعجون بلظى التجربة، القائم على الثقة بالنفس، والمستند إلى حقيقة أن الرهان يبقى أولاً وأخيراً على القدرات الذاتية، وهو ما كان منطق الحرب ذاتها طوال سنوات عديدة.
وسورية على كل حال لن تنطلق من “النقطة صفر” في إعادة الإعمار.. إنها – ببساطة- بلد أنهى عملية الهدم التي تسبق تقنياً كل عملية إعادة إعمار فوق قواعدَ وأسسٍ أكثر معاصرة وحداثة.