مجلة البعث الأسبوعية

بالأرقام… التحرر من “دولرة” التجارة العالمية

البعث الأسبوعية-سمر سامي السمارة

تشير البيانات إلى أن احتياطيات الدولار الأمريكي في البنوك المركزية آخذة في التضاؤل، وكذلك تأثير الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، الأمر الذي يمثل فرصة فريدة للعملات الإقليمية، وأنظمة الدفع البديلة لسد هذا الفراغ.

يرى مراقبون أن فرض القيود والعقوبات التجارية الأمريكية على عدد من الدول، من ضمنها روسيا، وإيران، وكوبا، وكوريا الديمقراطية، والعراق، وسورية كان عديم الجدوى سياسياً، حتى أنه أتى بنتائج عكسية على الإقتصادت الغربية. ونتيجة لذلك، تقلص دور الدولار الأمريكي كعملة رئيسية لتسوية المطالبات التجارية الدولية.

تعرضت أكثر من 24 دولة من الدول التي لا تلتزم بسياسات الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى لعقوبات تجارية أحادية أو جزئية. ومع ذلك، فقد تبين أن هذه القيود كانت ضارة باقتصاديات الكثير من الدول، حتى أنها بدأت في التأثير على هيمنة الدولار الأمريكي نفسه في التجارة العالمية، وهو ما كان مناسباً لظهور  “كتلة تجارية عالمية جديدة” إلى الواجهة، حيث تم إنشاء بدائل لنظام الرسائل المصرفية الغربي” سويفت” للمدفوعات عبر الحدود.

وبحسب المحلل السياسي الأمريكي أندرو كوريبكو، فإن العقوبات الغربية الاستثنائية ومصادرة الأصول الروسية في الخارج، كسر الإيمان بنموذج العولمة المتمحور حول الغرب، والذي كان يتراجع منذ سنوات، ولكنه تمكن مع ذلك من الحفاظ على المعيار العالمي.

يضيف كوريبكو: ” رداً على هذه الاضطرابات الاقتصادية والمالية، سرعت الدول  الصاعدة التي تطالب بنظام متعددة خططها لإلغاء الدولرة والتنويع بعيداً عن نموذج العولمة المتمحور حول الغرب، لصالح نموذج أكثر ديمقراطية ومساواة – ويتمحور حول البلدان غير الغربية “.

تضاؤل احتياطيات الدولار

سجل صندوق النقد الدولي انخفاضاً في حيازات البنك المركزي من احتياطيات الدولار الأمريكي خلال الربع الأخير من عام 2020 ، حيث انخفض من 71 في المائة إلى 59 في المائة، الأمر الذي يعكس تراجعاً لنفوذ الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي. ويبدو أن الوضع مستمر في التدهور، ولعل أقرب دليل على ذلك هو انخفاض حيازات البنك من المطالبات بالدولار،  وتحديداً من 7 تريليون دولار في عام 2021 إلى 6.4 تريليون دولار في نهاية آذار 2022.

ووفقاً لتقرير تكوين عملات احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية لصندوق النقد الدولي،  فإن النسبة المئوية للدولار الأمريكي في احتياطيات البنك المركزي قد انخفضت بنسبة 12 في المائة منذ عام 1999، في حين أظهرت النسبة المئوية للعملات الأخرى، وخاصة اليوان الصيني، معدلاً تصاعدياً مع ارتفاع بنسبة 9 في المائة خلال هذه الفترة.

وتؤكد الدراسة الواردة في التقرير، أن دور الدولار يتضاءل بسبب منافسة العملات الأخرى التي يحتفظ بها قطاع المعاملات المصرفية الدولية في البنوك، بما في ذلك إدخال اليورو، حيث تكشف أنه سيكون له تأثير على كل من أسواق العملات، والسندات في حال استمرار احتياطيات الدولار في الانكماش.

العملات البديلة وطرق التجارة

على سبيل المثال، لتعزيز التجارة العالمية والصادرات الهندية، ابتكر بنك الاحتياطي الهندي في تموز الماضي، آلية تسوية بالروبية لدرء الضغط على العملة الهندية في أعقاب العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا، والعقوبات الأمريكية الأوروبية. وقد أبرمت الهند مؤخراً اتفاقيات لتبادل العملات بقيمة 75.4 مليار دولار مع الإمارات المتحدة، واليابان، ومختلف دول جنوب آسيا، كما أبلغت نيودلهي كوريا الجنوبية، وتركيا بأسعار الصرف غير المتداولة بالدولار لعملة كل بلد. وبدورها تقوم تركيا حالياً بأنشطتها التجارية باستخدام العملة الصينية اليوان، والروسية الروبل.

فضلاً عن ذلك، اقترحت إيران على منظمة شنغهاي للتعاون، عملة منظمة شنغهاي للتعاون الشبيهة باليورو من أجل التجارة بين الكتلة الأوراسية للتحقق من تسليح النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي. وقد أبلغ مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون الدبلوماسية الاقتصادية مهدي سفاري،  وسائل الإعلام في وقت سابق من شهر حزيران الماضي، أن منظمة شنغهاي للتعاون تلقت الاقتراح قبل نحو شهرين.

بدوره، قال كوريبكو أنه ينبغي عليهم استخدام مؤسسات متعددة الأطراف مثل بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون لتحقيق هذا الهدف، وما يتصل بهما من مؤسسات، مثل مجمعات العملات، وحتى التداول بعملة جديدة يعتمد سعرها على سلة من عملاتها للتخفيف من آثار القيود المتعلقة بالتجارة.

وكمشروع “لخرق العقوبات” قامت روسيا وإيران بإحياء ممر النقل الدولي المتعدد الوسائط بين الشمال والجنوب. ومن الجدير بالذكر، استقطب مشروع الممر اهتماماً متجدداً بعد “عقوبات الجحيم” التي فرضها الغرب على موسكو، لذا تعمل روسيا الآن على وضع اللمسات الأخيرة على اللوائح التي ستسمح للسفن الإيرانية بحرية الملاحة على طول نهري الفولغا والدون.

وللإشارة، تم التخطيط لـمشروع الممر كشبكة نقل متعددة الوسائط يبلغ طولها 7200 كيلومتراً، بما في ذلك خطوط البحر والطرق والسكك الحديدية لنقل البضائع بين روسيا وآسيا الوسطى ومناطق بحر قزوين.

 نظام الدفع بالروبل واليوان

في 30 كانون الأول 2022، عقد الرئيس الروسي بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ اجتماعاً عبر تقنية الفيديو، أكد خلاله بوتين أن التجارة الثنائية بين البلدين قد وصلت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، حيث بلغ معدل النمو 25 في المائة، وأن بلاده ستصل إلى حجم التبادل التجاري مع الصين، إلى 200 مليار دولار بحلول العام المقبل، وذلك على الرغم من العقوبات الغربية والتوترات الجيوسياسية التي يشهدها العالم.

كما أشار بوتين إلى ” الارتفاع الملموس في حجم التبادل التجاري” بين كانون الثاني، وتشرين الثاني لعام 2022، الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم التجارة بنسبة 36 في المئة لتصل إلى 6 مليار دولار. ومن المرجح أن يتم تنفيذ الهدف المرجو والذي يمكن أن تصل قيمته إلى 200 مليار دولار، وفي حال تحققه بحلول العام الجاري، سيكون بالروبل الروسي واليوان الصيني.

ويرجع ذلك إلى أن موسكو وبكين قد أطلقتا بالفعل نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك على غرار نظام “سويفت”، وزادتا مشترياتهما من الذهب لمنح عملاتهما مزيداً من الاستقرار، كما وقعتا اتفاقيات للتبادل بعملاتهما المحلية في العديد من الصفقات الإقليمية والثنائية.

بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن كل من روسيا والصين توقعتا استيلاء الولايات المتحدة المحتمل على أصولهما المالية، ففي عام 2014 اتفق الطرفان للتعاون في معاهدات تركز على الطاقة لتعزيز روابطهما التجارية الإستراتيجية.

ففي عام 2017، تم تنفيذ نظام “الدفع مقابل الدفع” الروبل مقابل اليوان، بالإضافة إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية. وفي عام 2019، وقع البلدان اتفاقية لاستبدال الدولار بالعملات المحلية في معاملات عبر الحدود، وتحويل ما قيمته 25 مليار دولار من التجارة إلى اليوان والروبل.

الاستقلال عن الدولار

قلص هذا التحول من اعتمادهما المتبادل على الدولار، وتجري حالياً تسوية ما يزيد قليلاً عن نصف الصادرات الروسية بالدولار الأمريكي، بانخفاض وصل إلى 80 في المائة عن عام 2013، ويتم الآن الجزء الأكبر من التجارة بين روسيا والصين بالعملات المحلية.

وقد رسخت منطقة شينجيانغ الواقعة في غرب الصين مكانتها أيضاً كمركز تسوية رئيسي عبر الحدود بين الصين وآسيا الوسطى، ما يجعلها مركزاً مالياً رئيسياً في المنطقة، حيث تجاوزت التسوية التراكمية لليوان عبر الحدود التي أُجريت في شينجيانغ 100 مليار يوان (14 مليار دولار) في وقت مبكر من عام 2013 وتجاوزت 260 مليار يوان في عام 2018.

وبحسب المحلل أندرو كوريبكو، تم إحراز تقدم كبير في تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة الدولية، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به. ويشير إلى أنه من غير المرجح أن تقبل الولايات المتحدة ببساطة التحديات التي تواجه هيمنتها المالية، ومن المرجح أن تعمل للدفاع عنها.

لهذا السبب، من المتوقع أن تحاول الولايات المتحدة حشد دعم اللاعبين الرئيسيين من خلال تقديم صفقات تجارية تفضيلية لهم أو تقديم الوعود بمثل هذه الصفقات، مع تأجيج التوترات في الوقت نفسه بين روسيا والصين والهند وإيران من خلال حرب المعلومات، وربما التهديد بتشديد نظام العقوبات الثانوي باعتباره “رادعاً”.

الاتحاد الاقتصادي الأوراسي

تعمل روسيا على إبرام اتفاقيات تبادل العملات مع عدد من الشركاء التجاريين، بما في ذلك الاتحاد الاقتصادي الأوراسي المكون من خمسة أعضاء، والذي يضم روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان، فقد مكنت هذه الاتفاقيات الاتحاد الروسي من إجراء أكثر من 70 في المائة من تجارته بالروبل والعملات الإقليمية الأخرى. وجدير بالذكر أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يبلغ عدد سكانه 183 مليون نسمة، وناتجه المحلي الإجمالي يزيد عن 2.2 تريليون دولار، يشكل تحدياً هائلاً للهيمنة الغربية على المعاملات المالية العالمية.

مؤخراً، اختتمت إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي مفاوضات بشأن شروط اتفاقية التجارة الحرة التي تغطي أكثر من 7500 فئة من السلع، وعندما تبدأ السنة الإيرانية القادمة في 21 آذار 2023، سيكون متاحاً سوق بحجم 700 مليار دولار للسلع والخدمات الإيرانية.

 التحرر من الدولرة

اكتسب الاتجاه نحو إزالة الدولرة في التجارة الدولية، لا سيما بين دول البريكس، زخماً كبيراً في السنوات الأخيرة، وهنا لابد لنا من الإشارة إلى أن دول البريكس تمثل 41 في المائة من سكان العالم، و 24 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و 16 في المائة من تجارتها.

في عام 2015، أوصى مصرف التنمية الجديد لمجموعة بلدان البريكس باستخدام العملات المحلية في التجارة، وبعد أربع سنوات، قدم المصرف 25 في المائة من مساعداته المالية البالغة 15 مليار دولار بالعملات المحلية، ويخطط لزيادة هذه النسبة إلى 50 في المائة في السنوات المقبلة، حيث يعد هذا التحول نحو إزالة الدولرة خطوة مهمة للاقتصادات الناشئة التي تسعى لتأكيد دورها في النظام الاقتصادي العالمي وتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي. وفي حين أن اعتماد إزالة الدولرة قد يطرح بعض التحديات والشكوك، إلا أنه يعد خطوة مهمة نحو اقتصاد عالمي أكثر تنوعاً وتوازناً.

صحيح أن الدولار الأمريكي يشكّل الجزء الأكبر من الاحتياطات المالية في العالم، لكن الاقتصاد الأمريكي لم يعد بالقوة التي كان عليها قبل عقد من الزمان، وعليه فإن الدولار لن يبقى مهيمناً على الاقتصادات العالمية، حيث لجأت العديد من الدول إلى البدائل التي بإمكانها الاستعاضة عن الدولار، مثل الذهب والعملات الرقمية التي من شأنها سحب البساط من تحت عرش الدولار، لتتربع هي على قائمة العملات الأكثر تداولاً في العالم.