لولا دا سيلفا إصلاح شامل.. وخروج لاتيني من العباءة الصهيوأمريكية
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:
بعد تسلّم الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا مهامه ما زال محاطاً بتحدّيات جمّة على جميع الصعد داخلياً وخارجياً، لكن مع ذلك فإن خططه تشي بقدرة هائلة على النجاح والقوة في الإنجاز تجاه أعتى الظروف لتحقيق جملة من الأهداف التي ستعيد البرازيل “بلداً سعيداً” كما وعد، انطلاقاً من إعادة إنعاش اقتصادها وإعادة تموضعها جيوسياسياً في ظل الوضع العالمي الخطير والمقسّم إبان مجموعة من الصراعات التي يقودها الغرب الأطلسي.
فعلى الساحة الداخلية، ما زالت تعاني البرازيل من مشكلات الفقر وتداعيات السنوات الأربع للرئيس السابق جايير بولسونارو الذي كان “يقضم” البرازيل ويدمّرها في جميع قطاعاتها نتيجة سياساته الفاشلة، وحتى على الصعيد البيئي تم في عهده نشر الحرائق لتدمير غابات الأمازون التي تُعدّ رئة الكرة الأرضية، كما عمل على خصخصة القطاع الزراعي وتفتيت ملكياته، فطرح دا سيلفا حل تلك المشكلات الإيكولوجية عبر مواصلة مسارات التنمية البيئية، مع إعادة واقع الزراعة والاهتمام بالتصنيع الزراعي والغذائي وإعادته إلى ما كان عليه لمدّ البرازيل والأسواق العالمية بالغذاء في ظل ما يشهده العالم من رعب في تحقيق أمنه الغذائي.
أما اجتماعياً فيعمل الرئيس دا سيلفا الآن على إبرام تحالفات متينة مع جميع الأطياف الداخلية للتخلص من حالة الانقسام السياسي الحادة التي كرّسها بولسونارو لدى مروحة تلك القوى، ويعمل أيضاً على إقصاء العسكريين الذين عيّنهم الرئيس السابق للسيطرة على مفاصل الدولة المدنية خدمةً لتثبيت حكمه وإنجاح محاولاته الانقلابية غير الشرعية التي خطّط لها بدقة قبل خروجه من السلطة، كما يوطّد بناء جسور متينة بين كل طبقات المجتمع، وإعادة المساواة وتشكيل وزارة لتلك الغاية، بما في ذلك المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة العاملة ومحاربة الفقر والفساد اللذين يهدّدان بإنقاص عدد وجبات الطعام الثلاث لدى أغلبية البرازيليين.
وعلى الصعيد الدولي، يخطط دا سيلفا لبناء سياسة خاصة وأكثر استقلالية لبرازيليا، والسعي لإعادة بناء التكامل الإقليمي مع دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، وإعادتها إلى سابق عهدها كمنطقة حياد دولي كان يمثل دا سيلفا رأس الحربة فيه من خلال نشره تلك الثقافة في جميع أرجاء القارة اللاتينية، إضافةً إلى سعيه لبناء تحالفاتٍ دولية لتحقيق التنمية بالتعاون مع كل القوى الوطنية الموجودة في جنوب العالم، وإعادة ترميم التحالفات مع القارة الإفريقية ودول العالم العربي بعد سنوات من الانقطاع الذي سبّبه اليمين المتطرّف.
إن من أهم التحدّيات الخارجية للبرازيل الآن التي يسعى دا سيلفا لخوضها، مسألة تحدّي الإرادة الأمريكية والأطلسية الساعية إلى السيطرة على أمريكا اللاتينية واستخدامها كمنفذ لسياساتها الإمبريالية ضدّ الشعوب، فالبرازيل تمثل ثلث قارة أمريكا الجنوبية وهي بالمرتبة العاشرة على مستوى اقتصاد العالم، وسيوظف الرئيس البرازيلي تلك الأمور الاستراتيجية في إعادة البرازيل كدولة فاعلة وبقوة على الساحة الدولية وبجميع الملفّات، والمساهمة في إرساء السلم بين جميع الأطراف في ظل حالة الصراعات المحتدمة في الفترة الحالية، كما سيستفيد من تأييد أغلبية شعوب الكاريبي له وترحيبها بعودته كموحّدٍ لسياسات الكاريبي وقواها اليسارية في وجه الغرب، بحيث يصبح صوتها مسموعاً وتكسب قدرة أكبر على التفاوض عبر كسر التباعد بين هذه البلدان، كما عمل في ولايته السابقة على جعلها قوة لها وزنها مجتمعة، مع العمل أيضاً على تعزيز التكامل على الصعد الأخرى فيما بينها تجارياً واقتصادياً وصناعياً.
ونرى الرئيس دا سيلفا يوجّه رسالة قوية للكيان الإسرائيلي والعالم مفادها أنه سيكسر قاعدة السياسة الخارجية التي بناها سابقه على أساس اختصار تحالفات برازيليا مع أمريكا و”إسرائيل” لتقويتها، مع إهمال علاقات الصداقة مع كل الكرة الأرضية، حيث بدأ بخطوة سريعة ومفاجئة بإقالة سفير البرازيل لدى تل أبيب، مديراً ظهره لعلاقة الصداقة السابقة التي كرّسها بولسونارو معهم بعد أن عملوا على تجنيده كأداة للسيطرة على موقف البرازيل وسياساتها الخارجية الدولية ومساعدتهم في موضوع التصويت للكيان ضدّ الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية والأمم المتحدة والسعي للاستفادة من موقفهم في إعلان القدس عاصمة لكيانهم المزعوم.
فعودة دا سيلفا ستغيّر ذلك وستعيد التعاون مع فلسطين المحتلة ومساندتها سواء سياسياً أم إنسانياً، لأنه يعتبر أن فلسطين هي الصديق للبرازيل لا الكيان الغاصب الذي يعي حقيقته تماماً، وخاصةً بعد أن ظهر جلياً حجم العبث الإسرائيلي بالملفات الحساسة في البرازيل، كما كان واضحاً كيف حمل أنصار بولسونارو العلم “الإسرائيلي” بكثافة خلال احتجاجاتهم وهجومهم على المؤسسات الدستورية والشرعية للبلاد ومحاولاتهم الحثيثة الانقلاب عليها بدعم من أمريكا والموساد الإسرائيلي، اللذين يحاولان عرقلة استلام اليسار لأي شكل من أشكال السلطة سواء في البرازيل أم حتى في بقية أمريكا اللاتينية حرصاً منهم على الاستفادة من دعم قوى اليمين المرتهنة لأمريكا والغرب، كما لفت محللون إلى الدور القذر الذي تلعبه إسرائيل عبر استخباراتها لتأجيج مشاعر الكره والعداء ضدّ الجاليات العربية والإسلامية الموجودة في أمريكا اللاتينية بغية إقصائها وإبعادها عن موقف تلك الدول المؤيّد لقضايا العرب العادلة.
إن الرئيس لولا يعدّ القضية الفلسطينية أولوية وتحدّياً في سياسته الخارجية، وسيعيد البرازيل إلى نهجها المعترف بالدولة الفلسطينية ما قبل عام 2010 وسينقل إسرائيل إلى خانة العدو، مهما بلغ حجم ضغط المؤسسات اليهودية التي تعمل داخل البرازيل للسيطرة على قرار الحكومة عبر شركاتها القوية ولوبياتها ومؤسساتها الاجتماعية وأموالها السوداء التي تضخّ في قطاعات كثيرة، والتي تعاظم دورها في فترة الرئيس السابق بعد أن أوصلته إلى السلطة وبقيت إلى جانبه حتى عندما انفضحت أوراقه وانفضّ عنه الجميع، وهي حتى اللحظة على تنسيق عالٍ معه ولكن في الخفاء.
كذلك فإن سفير البرازيل الذي أقاله الرئيس لولا لدى الكيان، كان جنرالاً ومن خارج المؤسسة الدبلوماسية، وهذا يشي بحجم التعاون العسكري والاستخباري ونشاطات التجسّس التي كانت تُطبخ للتآمر على أمريكا اللاتينية، وخاصةً في الأوروغواي والأرجنتين.
ويمكننا القول إن عودة دا سيلفا إلى رئاسة البرازيل ستقوّض كامل دور الأطلسي والموساد في القارة اللاتينية، وستعزّز عملية كسر القطبية الدولية بعد كسر حالة الاستقطاب التي كانت سائدة في دول الكاريبي، كما ستدعم جميع خُطا التعاون بين القوى الصاعدة في كل القارات، وخاصةً بعد إعادة تنشيطها كعضو فاعل في “بريكس”.