محمد القصبجي.. أهم موسيقي وملحن في القرن العشرين
فيصل خرتش
تأتي أهمية الموسيقي والملحن محمد القصبجي من إنجازاته المبدعة التي حققها منذ مارس التلحين في عام 1917 ولغاية توقفه عن ذلك في عام 1954وليقتنع بعد ذلك بأن يظلَ عازفاَ على العود في فرقة أم كلثوم، وقائداَ ومعلماَ لها إلى أن توفي في 25 آذار 1966.
ولد القصبجي في 15 نيسان عام 1892 وعندما احترف التلحين أدرك أنَ الوصول إلى أعلام الطرب يتطلب ملحناَ معروفاَ، والمطربات الشهيرات يتهافتن على ألحان المعروفين من أعلام الموسيقا، لذلك انضم إلى حلقاتهم، وكانت براعته في العزف على العود تساعده في استنباط ما يريد من ألحان.
اضطر إلى العمل في سكة الحديد، ولكنه لم يستمر طويلاَ، وعكف على نظم وتلحين عدد من الموشحات والألحان والأدوار التي لم يشتهر منها سوى دور “الحب له في الناس أحكام” و”الصبر ياما نصف مظلوم”. وقد تمكن من الوصول إلى المطربات الكبيرات، فلحن لمنيرة المهديَة عدداَ كبيراَ من الأغنيات التي شهرته، كذلك لحن لفتحية أحمد عدداَ مماثلاَ، اشتهرت منها آنذاك أغنية “أنا الحبيبة صدَقني” قبل أن ينطلق معها في الثلاثينيات في القصائد والمونولوج التي رفعت من شأنها.
منيرة المهدية طلبت إليه أن يلحن لها أوبريت، فلحن لها أوبريت “كيد النساء” وأوبريت “المظلومة” وأوبريت “حياة النفوس” ولقيت هذه نجاحاَ طيباَ، فعهد إليه نجيب الريحاني بتلحين أوبريت “نجمة الصباح” فكان من أقواها، كذلك لحَن أوبريت عايدة وقد شاركه في تلحينها رياض السنباطي.
تعرَف القصبجي على أم كلثوم في أواخر عام 1923 وكانت لا تزال مطربة ريفية، وظلَ ملازماَ لها حتى وفاته، وأوَل أغنية لها من ألحانه تعود إلى عام 1924 وفي عام 1926 لحن لها أربعاَ وعشرين أغنية مختلفة الأنواع ثمَ أعطاها ثلاث أغنيات، وكانت من بينها أغنية “إن كنت أسامح” فاعتبرت منعطفاَ هاماَ في تاريخ الغناء العربي، وبعدَ مونولوج “إن كنت أسامح” تراوحت ألحانه في قوَتها بين مدَ وجزر إلى أن أعطى في عام 1931 مقطوعتين، الأولى “خاصمتني” التي دعَم فيها اتَجاهه في تطوير الغناء، والثانية “أنت فاكرني” التي استتب له فيها السيادة على فن المونولوج، ولكي يحقق هدفه بصورة أقوى، انصرف مع أحمد رامي إلى دراسة الأغنية الحديثة، ولما كان رامي متأثراَ بالرومانسية الفرنسية، عرض أفكاره بالنسبة للنظم على القصبجي فتجاوب معها مشترطاَ عليه: أن تكون تفعيلات الزجلية، أو القصيدة متعددة لتساعد التلحين على التنويع والتلوين في الإيقاعات والمقامات، وهكذا ولدت بفضل رامي والقصبجي المرحلة الرومانسية في الغناء العربي، لتلتهم شيئاَ فشيئاَ قوالب الغناء المعروفة التي كان “الدور” أول ضحاياها، ولتقضي على الأغنية الشعبية ذات الهدف الاجتماعي والوطني والسياسي التي أرسى دعائمها الموسيقي سيد درويش, وفي عام 1936 أعطى الأغنية العربية أبعاداَ جديدة تجلت في العلوم الموسيقية الغربية التي كرَسها لخدمة الأغنية، ومن يستمع إلى فيلم “نشيد الأمل” يكتشف أن الغناء أصبح شيئاَ آخر، وأن الصوت الإنساني عومل في التلحين والتعبير معاملة آلة موسيقية إفرادية، وجعل صوت أم كلثوم يحلَق إلى آفاق جديدة.
لم يكن القصبجي راضياَ عن الأصوات التي يتعامل معها، باستثناء فتحية أحمد لأن جلَ الأصوات آنذاك كانت متأثرة بأسلوب الغناء العثماني والفارسي وقرر الامتناع عن إعطاء ألحانه لهذا النوع من المطربين والمطربات، وتميَز بظاهرة أخرى هي افتنانه بالأصوات المعبرة الجميلة والقوية، ومن هذه الأصوات المطربة أسمهان، وأوَل الألحان التي أعطاها لها هي قصيدة “ليت للبراق عيناَ” ثمَ أعطاها مجموعة من الأغاني والقصائد كان من أبرزها قصيدة الأخطل الصغير “اسقنيها بأبي أنت وأمي” وقصيدة “هل تيم البان” وطقطوقة رائعة هي “فرق ما بيَنا ليه الزمان” واختتمها بمونولوج “ياطيور” التي حطم فيها أسلوب الإلقاء الغنائي التقليدي منتقلاَ إلى الأسلوب الغربي، وقبلها لحن لليلى مراد ألحاناَ لا حصر لها تتفق مع صوتها الممراح، وبخاصة في الأفلام السينمائية، وهنا تتجلى ظاهرة أخرى تفرَد بها، وهذه الظاهرة تكمن في مقدرته الكبيرة على الارتقاء بالكلام الهزيل السخيف إلى مستوى رفيع عن طريق موسيقاه، مثال ذلك أغنيات “اضحك كركر” “يا جمال العصفور” “أنا قلبي دليلي” وفيها أعطى الكورال دوراَ رئيسياَ، انتقل به إلى تعداد الأصوات في توافق خلاق.
خلال سنوات الحرب الثانية تدفقت ألحانه فلحن لأسمهان “امتى ح تعرف امتى” و” أنا اللي أستاهل” ولأم كلثوم لحن عدداَ من أغاني فيلم فاطمة، وأعجب بصوت آمال حسين فلحن لها الكثير من القصائد، وبصوت نور الهدى فلحن لها فيضاَ من أغاني الأفلام، ولإبراهيم حمودة، وعبد الغني السيد، وصالح عبد الحي، ومحمد عبد المطلب، وغيرهم ممن كان يتوسم في أصواتهم المقدرة والتعبير والعطاء.
في عام 1944 أعلن اعتزاله، ولكن أم كلثوم استطاعت إقناعه بالعمل، فلحن لها آخر روائعه “رقَ الحبيب” ولحن لسعاد محمد، وساهم مع السنباطي في تلحين عدد محدود من الأغنيات، ولكن ألحانه بعد “رقَ الحبيب” فقدت بريقها واتسمت بالعادية، فصمَم على الاعتزال، ونفذ قراره فعلياَ، بعد أن أعلن أنه: يعتزل بعد أن أدى رسالته كملحن، ولا يمكن أن يعطي ألحاناَ تسيء إلى ماضيه الطويل.
لقد صمت مرَة واحدة إلا من صوت عوده الذي كان يصدح في حفلات أم كلثوم، وبعد عشرين سنة من العمل في فرقتها كعازف عود، مرض فجأة في أواخر كانون الثاني1966، ثمَ أصيب بالشلل وزاره عدد كبير من الموسيقيين والمغنيين.
هكذا انطفأ القصبجي الذي يدين له الغناء بكل هذا الثراء… مشلولاَ، وحيداَ، لا يزوره سوى قلة من الأصدقاء، لقد عاش مع أم كلثوم أكثر من أربعين عاماَ، وكانت صديقته وملهمته طوال عشرين عاماَ 1924 ـ 1946 وهو الذي أسس لها فرقتها، وقد قضى كلَ هؤلاء لتزهر فيما بعد فرقة أم كلثوم بما صنعوا وصنع.
خيَمت كآبة كبيرة على كلَ الذين عايشوا القصبجي، وكان بينهم رياض السنباطي الذي بدا أكثر من تأثراَ من غيره بهذا المصاب، فازداد عزلة عن الناس، وقد سئل مرة، فردَ على ذلك بقوله: “أنا أميل إلى هذه العزلة، بعد رحيل محمد القصبجي، لم يبق لي أحد سوى أولادي، هؤلاء الذين أطمئن لهم”.