لا عزاء عن المبدعين إلا إبداعهم
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
من يعرف الأديب والمترجم رفعت عطفة أو يقرأ له يعرف غزارة ذلك المبدع ويتعلم منه الحياة والتنوع، إذ بدأ مشواره مع الترجمة بكتاب أصدرته له وزارة الثقافة عام 1978 هو كتاب “التساؤلات” للشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي كان قد صدر باللغة الإسبانية، وبعدها ركز عطفة على ترجمة المسرح، حيث ترجم أعمالاً للكاتب الإسباني رامون دل بالييه- إنكلان، من بينها “أضواء بوهيمية” (1979) وثلاثية “الكوميديا البربرية”، التي أصدرها في ثلاثة عناوين عام 1982 هي (وجه الفضّة، النسر، نشيد الذئاب)، وكان لترجماته من الأدب الاسباني والأميركي اللاتيني أثر في تطور الرواية العربية وفتح آفاقها على أبعاد سردية وتقنيات وجماليات غير مألوفة، حيث لمع اسمه لدى القراء بفضل الروايات أكثر من غيرها، فترجم “المخطوط القرمزيّ” (1996) للإسباني أنطونيو غالا، و”ملحمة آل ماركس” (1999) للإسباني الآخر خوان غويتيسولو، إلى جانب العديد من أعمال الروائية التشيلية إيزابيل ألليّندي، التي ترجم لها نحو عشر روايات بين 1997 و2015، من بينها “الخطّة اللانهائية”، و”ابنة الحظّ”، و”خلاصة الأيام”، و”لعبة نازع الأحشاء”، وترجم قصة “النورس والقط الذي علمه الطيران” للروائي لويس سبولبيدا، ورواية “سجل الخديعة” للروائي خورخه فولبي، كما اقترح ترجمة جديدة لـ”دون كيخوتِه” ثربانتس، وكان لا يعتقد بوجود ترجمة أفضل من النص الأصلي في أية لغة وخاصة بالنسبة للشعر، ولم يكن يختار نصاً للترجمة إن لم يحبه، فهو موجود في كل ترجماته لأن المترجم شريك للكاتب في العمل، وتتمثل تقنية الترجمة لديه في القراءة الاستطلاعية أو الأولية للعمل ومن ثم يقرؤه بترو ويترجمه فصلاً فصلاً ويعاود قراءته مرة أخيرة بعد أن تكتمل ترجمته.
رفعت عطفة لم يقهر المرض الذي داهمه منذ عام 2018 ويسخر منه فقط، بل أعطى درساً أن الإبداع والاستمرار غير ما يظنه الناس، فالأمل فيه نهم، لكنها النهاية أن يرحل تاركاً مما أبدع إرثاً لا يمكن محوه مهما حاولت السنون، فهو قامة عالية في المشهد الثقافي السوري والعربي، استمر سنوات طويلة قبل أن تستكشف أبعاد إبداعاته التي تركها لنا ترجمات لأنواع أدبية متعددة من شعر ومسرح ورواية، فقد كان رجلاً دؤوباً وظاهرة غير عادية في حياتنا، وإذا كان الإنسان في هذه الظاهرة قد غادر فإن ما بقي منها كفيل بأن تقف الأجيال عنده طويلاً للتأمل والمعايشة والإفادة وملء الروح بكل ما هو رائع ومدهش من المشاعر والأفكار والأحلام والتصورات، فهو المبدع المتميز والمؤثر في كل ما خطه قلمه، ومؤلفاته الكثيرة بأجناسها الأدبية المتعددة إنما تتضافر معطياتها وتحتشد مضامينها وفعالياتها الإبداعية لتشكل مشروعاً أدبياً ذا رؤية متكاملة ومنسجمة، فكان الصوت الصافي للجوهر الإنساني النبيل، وطائر بعدة أغرودات مجتزأة أكمل من خلالها صوتاً ما ونشيداً أراده على طريقته الخاصة.. كان يعرف ماذا يقول وكيف يلتقط اللقطة الذكية اللماحة، إذ حافظ في ترجماته على تميزه بنكهته الخاصة التي يختلف فيها عن مجايليه ببقائه ضمن بوتقة ذاته ومعاناته التي يحملها صوراً حياتية تنطبق في ملامحها وسماتها على ما يعتمل في دواخلنا من مشاعر وأحاسيس، ربما كان أديبنا أقدر منا على إدراكها والبوح بها، لكن الزمن يجعل كل واحد فينا مشغولاً بتعبه بعيداً عن الذين كانوا يتقاسمون معه يوماً حياته بكل دقائقها وتفاصيلها، ولم يبق منها إلا الذكريات.
رفعت عطفة الجسد الذي تمشى في دروب وحارات الوطن، وسجل على كل جدار كلمة حق ونبض حقيقة.. الظاهرة الثقافية الأصيلة التي ستبقى شاهداً على جدارة الإنسان العربي بالإبداع والابتكار والإدهاش، ولا عزاء عن المبدعين حقاً سوى إبداعهم الحي الباقي في ذاكرة الناس وذاكرة الأرض التي أينعوا على ترابها، فاليوم يغادرنا الأديب رفعت عطفة وينضم إلى قافلة المبدعين الراحلين، لكن آثاره لم ولن ترحل، بل إنها ستزداد مع الأيام جلاء ووضوحاً، وسينظر إليها على أنها شهادة حقيقية على المرحلة التي عاشها، فالرحمة لروحه والعزاء لأهله ومحبيه على امتداد الوطن العربي والعالم.