دراساتصحيفة البعث

حرب التجسس في أوكرانيا

ريا خوري

لم يتوقف الصراع في أوكرانيا على الصواريخ والمدافع والدبابات، بل هناك طرف ثالث يلعب بالخفاء في المواجهة العسكرية الساخنة بين روسيا والغرب الأوروبي- الأمريكي من خلال العديد من الوثائق التي أزيح الستار السري الحديدي عنها، وهذا ما دفع إلى طرح العديد من التساؤلات التحذيرية من جانب خبراء استراتيجيين متخصصين، وخبراء مهتمين بتلك الحرب ووسائلها. يقول أحد تلك التساؤلات: هل أفرزت طرق وأساليب التعامل مع تلك الأزمة، وتلك الاختناقات نوعاً من السياسات، وخاصة تلك التي تدخل العالم عصراً جديداً تُمارَس فيه أعتى أساليب الدبلوماسية المخابراتية أو التجسسية؟.

لقد أفشت المعلومات الخاصة التي تمّ الكشف عنها من خلال الوثائق المسرّبة إلى لفت أنظار الذين تساءلوا على اتساع معارفهم في هذا الاتجاه. تلك الوثائق تطرقت إلى تقرير مهم تحت عنوان: “المخابرات السرية والدبلوماسية العامة في حرب أوكرانيا”، والمكون من نحو  ثلاثين صفحة، وقام بكتابته كلّ من البروفيسور أستاذ دراسات الأمن الدولي بإدارة دراسات الحرب التابعة للجامعة البريطانية هيود ايلان نفسها، والبروفيسور توماس ماغواير أستاذ دراسات المخابرات والأمن بجامعة كينغز كوليدج في العاصمة البريطانية لندن، والاثنان يتساءلان بحذر شديد: هل نحن نلج الآن عصراً جديداً من الدبلوماسية المخابراتية السرية يتزايد فيه قوة ونفوذ أجهزة المخابرات والاستخبارات في صناعة السياسات الخارجية؟.

لقد تطرق الاثنان إلى ما أعلنه عدد غير قليل من مسؤولي الأمن السابقين بالولايات المتحدة الأمريكية، عن تأييدهم القوي لاستخدام أجهزة المخابرات، وأساليب الاستخبارات في عمليات خارجية. ومن بين هؤلاء نائب المدير السابق لموقع مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية في روسيا رولف لارسن، وكذلك عدد كبير من المديرين السابقين لوكالة المخابرات المركزية، مثل مايكل هايدن، وليون بانيتا، وجون برينان، إضافةً إلى مايكل موريل، نائب مدير وكالة المخابرات الوطنية الأمريكية للوكالات الرئيسية لمجمع الاستخبارات في الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة. كما أن، الوكيل السابق لمكتب المخابرات والتحليل بوزارة الأمن الداخلي، برايان ميرفي، قال إن استخدام المخابرات نفوذها، وما تملكه من إمكانيات هائلة خلال أزمة الحرب الدائرة في أوكرانيا، أظهر أن دوافع عدّة كانت وراء استخدامها بشكل كبير ومكثَّف، من بينها دفع القوات الروسية نحو مزيد من التورط في أعمال تكبّدها خسائر كبيرة، إضافة إلى الكشف عن منطقة جغرافية محدّدة أطلق عليها المنطقة الرمادية التي يدير فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نشاطاته العسكرية بعيداً عن الأعين وأساليب المتابعة والرصد، وبذلك يمكن ردع إجراءاته، وخطواته الهادفة إلى إضعاف الحكومة الأوكرانية.

لقد جرى الدفع نحو الرئيس فلاديمير بوتين برسائل مخابراتية الطابع تهويلية لتحذيره من أنَّ العالم الخارجي يعلم بما يقوم به، وقد بدأ استخدام تلك الرسائل منذ أن قام  ويليام بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية بزيارته للعاصمة الروسية موسكو في شباط عام 2021، قبل بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا، ثم بعدها.

تضمّنت تلك الرسائل تنبيه بوتين وتحذيره بشيء من التخويف والتهويل بأن قادة حلف شمال الأطلسي يتابعون كل تحركاته، ويحلّلون تصرفاته وخططه وسياساته المتبعة، حتى يمكن خلق شعور لديه بأن ما يقوم به من أعمال مكشوف، حتى ولو اعتقد  أنه لا يزال داخل المنطقة الرمادية. وهذا له صلة كبيرة بما أعلنته المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، إيميلي هورن، حين قالت: “نحن تعلمنا الكثير من الأساليب والطرق عن كيفية منع روسيا من التمتع بنفوذ في الخفاء، معتمدين على ما تقوم به أجهزة المخابرات حتى من قبل بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا”.

ووفق ما تم تسريبه من معلومات، وتحديداً التقرير الذي تم نشره في المطبوعة البريطانية “سيرفايفل”، فإنَّ الجهود الكبيرة التي بذلها حلف الناتو، ومن حكومة أوكرانيا، لنشر المزيد من المعلومات المخابراتية الزائفة، التي تهدف إلى إثارة التشكيك والارتباك في روسيا في نظر العالم أجمع، وأن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة استخدمتا المخابرات السرية بنشر معلومات تبدو في ظاهرها صحيحة لتبرير موقفهما من الحرب الدائرة في أوكرانيا، وبتنسيق مدروس ومحكم بينهما لمتابعة ومواجهة أي تطورات مستقبلية متوقعة.

وفي الوقت نفسه، تولى كلّ من مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وويليام بيرنز، تنفيذ مبادرة لاستخدام المخابرات في خريف عام  2021، هدفها  الأساس الحدّ من قوة ونفوذ روسيا، وخاصةً في المجال الدولي الخارجي، وبالتنسيق المستمر مع مجلس الأمن القومي.

المتابع لردود الأفعال حول منهج وسلوك الأجهزة الاستخباراتية والمخابراتية في بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، يجد أنّ هناك عدداً كبيراً من الخبراء والمتخصصين وصنّاع القرار في هذين البلدين يشيرون إلى الورطة الكبيرة التي ارتكبوها في العراق عندما قدموا معلومات استخباراتية ومخابراتية بأنّ العراق لديه أسلحة دمار شامل، وهذا كذب وافتراء، وكان من نتيجة ذلك احتلال العراق، وتدمير جزء كبير منه، وقتل وجرح وتشريد الملايين من الشعب العربي العراقي.

لهذا السبب، فإنَّ هؤلاء الخبراء وصنّاع القرار في تلك البلدان كانوا حذرين أثناء أزمة أوكرانيا من التورط بالمغالاة في إعلان أعذار، ومبررات دورهم المساند لأوكرانيا وجيشها، خشية ردود فعل قوية، وغير محسوبة ممن يعارضون هذه السياسات، وهذا هو ما دفع كثيرين من رجال المخابرات الأمريكية والبريطانية السابقين، ومن لديهم الخبرة الكبيرة والكافية في هذا المجال إلى تحذير حكومتيهما من التدخل قبل، وأثناء الحرب الساخنة في أوكرانيا التي بدأت تتسع دائرتها.