مساحات الرد المفتوحة
علي اليوسف
عاد العمل الفردي المقاوم في فلسطين المحتلة ليتصدّر المشهد ويشكل كابوساً للكيان الصهيوني بكلّ تركيبته الأمنية والأيديولوجية، ما يعني بالضرورة أن هناك نهجاً جديداً في آلية التفكير المقاوم، وأن العمليات القادمة ستتواصل بالطريقة ذاتها التي بدأت ملامحها ترتسم منذ منتصف العام 2022.
من الناحية التحليلية، فإن العملية التي نفذها خيري علقم داخل مستوطنة “النبي يعقوب” في القدس المحتلة، وقُتل فيها 8 مستوطنين، أثبتت أن الكيان الصهيوني ضعيف جداً، وقابل للاختراق في أي وقت، أي أن هذا النوع من الأعمال الفردية قابل للتكرار كل يوم وبعدة وسائل. لكن الأهم أن العملية جاءت ليس رداً على قتل الفلسطينيين كلّ يوم، وآخرها مجزرة جنين، بل على الاستخفاف بكلفة الدخول إلى المسجد الأقصى، أي ما قام به بن غفير مؤخراً، لأن هذا الانتهاك لحرمة الأقصى يجعل مساحات الردّ مفتوحة، ويمكنأن تأتي كل مرة من موقع مختلف، بما يعني أن التقسيمات الإسرائيلية ليس لها أي تأثير على العقل المقاوم، وأن الوقوف وضرب الفصائل المقاومة، وحشرها في زوايا محددة، لن يأتي بأي نتيجة، لأنها بعد عملية خيري علقم، وغيره الكثير من أقمار فلسطين، باتت اليوم أمام أجيال جديدة قادرة على القيام بأي عمل مقاوم، واختيار الزمان والمكان المحددين، بعيداً عن المسكنات الإسرائيلية الخادعة.
إن ما قام به خيري علقم يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك تحولات كبيرة تشهدها المقاومة خلال السنوات الأخيرة، وقد باتت تشكل مفتاحاً للحالة المقاومة الجارية في القدس والضفة الغربية، وهي حالات لا تتصل بالضرورة بالفصائل الفلسطينية، وإن لم تكن هذه الفصائل غائبة عن المشهد.
لكن على أي أساس يقوم العمل الفردي المقاوم؟ إن الاجابة عن هذا التساؤل يمكن ردّه إلى ما أُطلق عليه “صناعة الفلسطيني الجديد”، بحسب تعبير الجنرال الأميركي كيث دايتون، الذي أشرف على إعادة بناء المنظومة الأمنية الفلسطينية وإغراقها في نمط استهلاكي يتعارض مع متطلبات مواجهة الاحتلال، بالإضافة إلى تعطيل دور المقاومة بما يشلّ قدرتها على قيادة أي فعالية نضالية مؤثّرة.
غير أن حرب عام 2014 على قطاع غزة كانت الفاتحة لكسر مخططات دايتون، فقد أعادت للشعب الفلسطيني وعيه بحركات المقاومة مع تصاعد العنف الصهيوني ومطامعه التوراتية، كالاستهداف المتكرّر للمسجد الأقصى ومحاولات تطبيع التقسيم الزماني، وفتح ثغرة للتقسيم المكاني، وتصاعد هجمات المستوطنين.
ثم جاءت “هبّة القدس” لتكون المحطة الأهم في الحالة المقاومة المفتوحة.. هذه الهبّة، إضافة إلى اتسامها بالمواجهات الشعبية، اتسمت بكثافة العمليات الفردية، حيث استمرت ظاهرة المقاومة الفردية في التصاعد، وصولاً إلى عام 2021 الذي اعتُبر بدوره نقطة تحوُّل مهمة، بعد أن دفعت اعتداءات المستوطنين وهجماتهم على المسجد الأقصى وتوالي حملات الاعتقال والتصفية في صفوف الشباب الفلسطيني إلى تعزيز النشاط المقاوم.
كانت المبادرات الفردية حاضرة دوماً في تاريخ المقاومة الفلسطينية، لكن الفارق الأهم في العمليات الفردية الأخيرة تتمثّل في كونها لا تأتي من سياق تغلب عليه الفاعلية التنظيمية في الضفة الغربية، فالدوافع الفردية خارج السياقات التنظيمية هي الغالبة في هذه المرحلة، ما يعني بالضرورة أن هذا النوع من العمليات الفردية سيبقى مهيمناً على الوعي الفلسطيني، وهو ما سيقود إلى اتساع أشكال المقاومة، لأنها بتراكمها واستمرارها ستفتح الطريق لخلق تحولات أوسع في الحالة الفلسطينية.