التشكيلي محمد صفوت: الطبيعة بورتريه آخر للإنسان
غالية خوجة
تتحدث الطبيعة بفصولها في لوحات التشكيلي الحلبي محمد صفوت، وتعكس مشاهدها تلك النقطة التي يلتقي فيها تأمل الطبيعة مع تأمل الإنسان، ومن حيث لا تشعر الألوان تتداخل أغصان الأشجار مع خرير الماء وتواقيت الشمس والقمر وهي تمضي بالساعات اللونية إلى رحلة زمنية عبرت آلاف اللوحات التي رسمها الفنان صفوت المولود في حلب عام 1949، المرتحل بين ملامح الوجوه ومتغيّرات الحياة اليومية لا لتستقر، بل لتظل مرتحلة مع أبعادها التعبيرية الواقعية الانطباعية إلى معالم مختلفة من مشاهد الأمكنة البرية والمعمارية، وملامح البورتريهات لشخصيات فنية وثقافية مثل فاتح المدرس وهو يستعد لترجمة أفكاره إلى لوحة ما، قد تكون لأحد البسطاء، أو إحدى الأمهات، وبورتريه آخر لصباح فخري بكامل أناقته وهو لا يضحك ولا يبكي وكأنه حزين لأمر ما، لكنّ صوته الطالع من خلفية اللوحة يبتهل “اسقِ العطاش”.
ضوء العشاء الأخير
كما تأخذنا المعاني اللونية في أعماله إلى ملامح رمزية لوجوه أخرى لم تكن عابرة، إضافة إلى ملامح الحضور العميق لأحداث من الذاكرة ما زالت متواصلة في حياتنا مثل لوحة “العشاء الأخير” التي ينتصر فيها الضوء ولون السماء والجمال المنعكس من باب ونافذتين، على الفضاء الكلي للوحة، والمترسب، في الآن ذاته، داخل أرواح شخوص اللوحة وهم يتحاورون بصمت عميق وحركة تسرد مع المكان وتفاصيله ذاك التأمل العميق، بينما نصغي في لوحات أخرى إلى عبور النسائم بين الغيوم وانعكاسها على بحيرة صغيرة، وبين أوراق الشجر الحمراء والترابية والذهبية والخضراء، وبين ظنون المطر المتأهب للسقوط في هذا المشهد الشتائي وألوانه وظلاله وأضوائه الطبيعية.
رائحة معتّقة
وتحضر الأحياء التراثية الحلبية في أعمال التشكيلي محمد صفوت ليس بألوانها الواقعية وتفاصيلها المكانية الدقيقة فقط، بل برائحتها القديمة وحكاياتها التأريخية، ومنها لوحة زقاق خان الوزير المؤدي إلى قلعة حلب، بشبابيكه الخشبية وبابه وفانوسه، ومزاريبه وظلالها المشرفة على النباتات الطالعات من بين حجارة الجدران، وأغصان الشجرة الوحيدة المرتفعة من الزاوية وكأنها تصلي وهي تمتد إلى مئذنة المسجد الأيوبي في قلعة حلب المعانقة للسماء.
بحيرة متوهجة
ومن زاوية رؤيوية أخرى، نرى كيف تراقص الشمس أشعتها في النهار، فتبدو بحيرةً حمراء متوهجة بمحيط أصفر، أو نهراً وردياً يعبر بين الجذوع والأغصان التي تساقطت أوراقها منذ خريف وتدخل بوابة الصيف ذات لون، أو تخطو نحو الشتاء ذات طقس غائم، أو ترفع الألم عن حدائق وعمارات حلب وهي تصير وردة عاشقة تتدرج بلونها الأرجواني الحار، وتعزف القدود والموشحات في فراغ ما، وتخفي في ظلها البعيد “الفصول الأربعة” للموسيقار أنطونيو فيفالدي.
لكن، كيف يرى الفنان محمد صفوت أعماله، وهدفها، وكيف تصغي إليه، وما الذي ترويه للمتلقي؟
أجاب: لا شك لكل فنان رؤية في هذه الحياة، وأنا واحد من الفنانين أعكس رؤيتي على الفن من خلال صياغة الأعمال الفنية الواقعية والانطباعية لأنها قريبة إلى مجتمعنا البعيد نسبياً عن الحداثة، القريب كثيراً من المشهدية الواقعية الرومانسية لأنها تشكّل جاذبية نفسية للمشاهد المحلي فرداً ومجتمعاً.
وجدتُني في الواقع والانطباع
أمّا ما هي مراحل مسيرته الفنية؟
فقال: كل فنان يمر في مراحل حياته بتجارب وأساليب متنوعة إلى أن يسير قي نهج قريب من شخصيته ومزاجه، ويظل ضائعاً في الألوان إلى أن يجد نفسه، وهكذا..، وجدت نفسي في “الواقع الحديث” و”الانطباع”.
التأثر والرسالة والتربية
واسترسل مجيباً عن الأثر والتأثر: كنا نتأثر في البدايات بالفن الأوروبي، وهذا شيء طبيعي لبداية أي فنان، ولكن، عبْر التأريخ والممارسة، يبدأ الفنان بتشكيل نفسه واختيار الأسلوب الممكن لمسيرته.
وتابع: الهدف أنني أؤمن أولاً وأخيراً أن مجمل الفنون هي عبارة عن تربية شمولية للإنسان، ولذلك، كانوا يقولون لنا: التربية الموسيقية، التربية الرياضية، التربية الفنية، فالتربية هي العامل الأساسي لبناء شخصية الإنسان ثقافياً ومعرفياً وتبدأ من الأسرة ثم المدرسة والمجتمع.
ومما لا شك فيه أن الفنان وليد بيئته، ومن هنا، يشكّل أعماله من وحيها، وبيئتي كانت حارة شعبية جداً “سراية إسماعيل باشا”، ورسمت كثيراً من الأعمال حولها، وكانت هذه الأحياء التراثية انعطافاً مهماً جداً في رسم الأحياء الشعبية، وبعدها بدأت أهتم بالوجه الإنساني “البورتريه” لامتلاك هذا الوجه تعابير لا منتهية، ولآن وراء كل وجه تفاصيل كثيرة وحكايات أكثر، واستهوتني هذه الحالة لفترة طويلة من الزمن واستمرت معي حتى الآن، والبعض يُطلق عليّ “ملك البورتريه”.
ما نعيشه غيّر حياتي لا اللوحات
لكن، ما الفرق بين البورتريه ولوحات الطبيعة؟ وما هي اللوحة التي غيّرت حياتك؟
أجاب: الطبيعة وجه آخر للإنسان، وخفايا تتضح وتغيب، لذلك، أحياناً، أرسم “بورتريه للطبيعة” و”بورتريه للحي العتيق”، وأشعر بأن جميع أعمالي “بورتريه”.
ثم شرد قليلاً مع ابتسامة حائرة، ليؤكد: ما نعيشه هو الذي غيّر حياتي وليس اللوحات، ولكن الأمل لا ينتهي.
موسيقا الإصغاء
أمّا عن موسيقا الإصغاء بين اللوحة والفنان والمتلقي، فرأى بأن الثقافة الموسيقية تظهر كنص مسكوت عنه بين أعماله، مضيفاً: لكن صوته مقروء من خلال آثاره، مثل الألم في الشجرة والتربة والسماء، والمعاناة في الروح الإنسانية، والمكتشفات في الذاكرة المكانية، والتفاؤل المتمدد مع الأشعة.