على وقع الإعانات والتحويلات الإغاثية وتصريف القطع.. انخفاض ملحوظ بسعر الصرف يقابله ارتفاع مزلزل بالأسعار
البعث الأسبوعية – ريم ربيع
لم تتوضح بعد الصورة الكاملة للآثار الاقتصادية للزلزال الذي ضرب البلاد الأسبوع الفائت، لا لجهة الخسائر ولا توقف المشاريع وتعطل الأعمال والتغيير الكلي بمسار الإنفاق، فلا يزال غبار وأنقاض المنازل، وصرخات المنكوبين بأحبائهم وأرزاقهم تحكم الصورة على المستوى الشعبي والحكومي، وما بين تقديرات لأضرار تراوحت بين 2-5 مليار دولار طرحها خبراء ومتابعون، يؤكد المشهد أن التبعات ستطال مختلف الجوانب الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والتعليمية والطبية وغيرها.
وبانتظار ما ستعلن عنه الحكومة من تقديرات للأضرار، وخطة “ما بعد الزلزال”، يقدم الخبراء معطيات عديدة مؤثرة من بينها التجميد الجزئي للعقوبات وكيفية استثماره قدر الإمكان، وزيادة المساحات التي تتطلب إعادة إعمار من جديد، وتمكين آلاف الأسر المتضررة عبر مشاريع جديدة، فضلاً عن التساؤل عن مصير التغيرات النقدية والاقتصادية التي كانت قد بدأت مطلع العام بحزمة قرارات وصفت بالإيجابية.
حالة مؤقتة
ورغم الفوضى التي لازالت سيدة الموقف، وغياب أي حدث اقتصادي جديد، والتأخر بوضع استراتيجيات التعامل مع الكارثة وتبعاتها، كان من اللافت الانخفاض المفاجئ بسعر الصرف الذي سجل خلال الأيام القليلة الأخيرة، وذلك بعد ارتفاع تزامن مع قرار رفع السعر الرسمي للحوالات ليوازي السوق السوداء تقريباً، حيث تراجع سعر الصرف في النشرة الرسمية لـ6600 بعد أن كان 6900 ليرة، فيما انخفض بالسوق الموازية بما يقارب 1000 ليرة عما كان عليه، حتى سجل للمرة الأولى انخفاض سعر السوداء عن النشرة الرسمية، وباتت الأولى تتابع نشرات المركزي للحاق بها وليس العكس.
تحليلات عديدة رصدناها لهذا الانخفاض، منها ما نسبه لحملات التبرعات الكبيرة وتضاعف الحوالات الواردة للأشخاص وللمنظمات الإغاثية على مبدأ “ما بيحك جلدك إلا ضفرك”، فما فشلت فيه الحكومة والمركزي لسنوات نجحت به الحملات الشعبية والإغاثية، ومنها ما رده للأثر النفسي لرفع العقوبات الجزئي، أو حتى نتيجة لما سبق للمركزي وأصدره من قرارات أهمها استقطاب الحوالات، غير أن الإجماع كان بأنها حالة مؤقتة إن لم تترافق بإجراءات أخرى نقدية واستثمارية.
التثبيت أكثر جدوى
الأستاذ في كلية الاقتصاد بدمشق الدكتور علي كنعان رأى أن سبب الانخفاض المفاجئ يعود لما صرّفه مواطنون ورجال أعمال من قطع أجنبي لتحويله لليرة والتبرع به للمتضررين من الزلزال، فالمبالغ الكبيرة التي تم التبرع بها كانت بمعظمها قطع أجنبي وليست ليرة، مما زاد الطلب على التصريف وخفّض السعر، إذ لا يوجد أي حدث اقتصادي جديد يؤدي للتخفيض الحاصل، أما بالنسبة للحوالات، فهي موجودة بشكل دائم -وفق كنعان- وزيادتها اليوم ليست بدرجة خفض سعر الصرف.
غير أن كنعان وخلال حديثه لـ”البعث الأسبوعية” فضّل تثبيت السعر على تخفيضه، فهو أكثر جدوى لاستقرار الاقتصاد برأيه، لاسيما في الأزمات التي تتطلب ثبات مع هامش بسيط للارتفاع أو الانخفاض، فالمنظمات الدولية مثلاً تعطي هامش 2.5% أو أقل لارتفاع أو انخفاض السعر، وليس 1000 ليرة خلال يومين، مؤكداً أن التثبيت لا يجب أن يكون قسرياً بل مرن ومتوازن مع الأسعار والأجور، فسعر الصرف يعتبر كباقي الأسعار بالاقتصاد الوطني وليس مقدساً، لذلك لا مشكلة بارتفاعه وانخفاضه لكن على أن يكون مرتبطاً بالأجور وليس فقط الأسعار، إذ إن محاولة التثبيت التي تمت في السنوات السابقة جاءت على حساب الرواتب والأجور وليس الأسعار، كما أوضح أن هذا الانخفاض حالة مؤقتة فنحن مقدمين على مرحلة سيزيد فيها حجم الاستيراد، أي انخفاض قيمة الليرة نتيجة الطلب على القطع.
الاستمرارية بالدعم
أما الخبير الاقتصادي الدكتور رازي محي الدين رأى أن أهم الأسباب لانخفاض سعر الصرف هي المساعدات والحوالات الكبيرة التي حققت وفرة قطع بالسوق، بالإضافة لبعض حملات دعم الليرة السورية في الخارج، والرفع الجزئي للعقوبات الذي ساهم نفسياً لا مادياً، أما الاستمرارية بالتحسن فهي مرتبطة بالإعانات والدعم من الأفراد والدول ومدى استمراريتها خلال الأشهر القادمة، فهي تحسن بشكل كبير من ضخ القطع في المصارف المحلية، مبيناً أن إجراءات المركزي مطلع العام لم تأخذ وقتها بعد، علماً أنها ترافقت مع ارتفاع سعر الصرف حينها، حيث ركزت بشكل أساسي على الاستيراد والتصدير وليس دعم الليرة بشكل مباشر.
ما بعد الكارثة.!
وعن آلية العمل بعد الزلزال وتبعاته، أشار محي الدين إلى أن الفترة المقبلة وما تحمله من مساعدات وانفتاح ولو جزئي من بعض الدول، يجب أن تترافق مع رؤى حكومية لإعادة الإعمار والاستثمار، والمسارعة لبناء ثقة مالية مع المؤسسات النقدية في الداخل والخارج، فالسياسات السابقة تسببت بتضخم كبير وتراجع للثقة، حيث يعيش التاجر والمستثمر حالة خوف تنعكس على السلع، وهو ما نجده واضحاً في ارتفاع الأسعار محلياً بالمقارنة مع جميع الدول المجاورة رغم انخفاض مستوى الرواتب محلياً، مشدداً على ضرورة تفعيل الاقتصاد الدولي لتأمين النفط كأولوية، والاستفادة من العلاقات مع الدول الصديقة والشقيقة، وتحقيق الشفافية لتشجيع الاستثمار والمساعدة من جميع الدول ومشاركتهم بالإعمار.
فيما اقترح الدكتور علي كنعان إلغاء كل قرارات الحظر ومنع التعامل بالقطع الأجنبي، والسماح بالاستيراد للجميع للحد من الاحتكار، وتمويل المستوردات من المصادر الخاصة للمستوردين بعيداً عن المنصة مما يخفض الأسعار بمعدلات كبيرة، بالإضافة إلى استثمار هذه الفترة لإلغاء قيود الاستيراد ككميات أو مواد ومواصفات، وأن تصدر اللجنة الاقتصادية قراراً تسمح بموجبه للمشاريع أن تقلع من جديد، والمسارعة لعودة الاستثمار وإلغاء كل القيود التي كانت مفروضة خلال الأزمة.
انعكاس للقرارات النقدية
بدوره، الخبير الاقتصادي الدكتور سليمان موصللي اعتبر أن التحسن بسعر الليرة يعود إلى قرارات المركزي الأخيرة التي أعادت الثقة للمصدرين والمواطنين، بما فيها القرارين 112 و 113، الذين سمحا للمصدرين بالاحتفاظ بالقطع الناجم عن صادراتهم لتمويل المستوردات، وإصدار نشرة أسعار جديدة لشراء الحوالات بسعر صرف واقعي وقريب من السوق الموازية، بالإضافة للأثر النفسي لتجميد العمل بقانون قيصر، والذي نأمل أن يبدأ أثره الحقيقي بالظهور مع بدء استلام مزيد من الحوالات الخارجية لدعم المنظمات الإغاثية في مواجهة كارثة الزلزال.
واقترح موصللي تشجيع المصارف الخاصة على فتح قنوات تحويل مع بنوكها المراسلة بالخارج، وتبديد مخاوفها لتبدأ الحوالات بالتدفق من خلالها، وتوضيح أهمية رفع القيود المفروضة على التحويل لتأمين المواد الضرورية لمواجهة الكارثة، موضحاً أن الحوالات الخارجية لم يظهر أثرها بعد ريثما تبدأ البنوك في الخارج بالتواصل مع المصارف المحلية لتمرير الحوالات عن طريقها.
فترة للترميم
وتوافق رأي عضو غرفة تجارة دمشق فايز قسومة مع موصللي، حيث ردّ سبب انخفاض سعر الصرف لقرارات المركزي، بما فيها رفع سعر الحوالات لسعر قريب من السوق الموازي، مما جعل المواطنين وقطاع الأعمال يفضلون اللجوء للسوق الرسمية الآمنة والأقل مخاطر، فالسوق السوداء اليوم أصبحت هي من تلحق بسعر المركزي وليس العكس، كما أن الازدحام الملحوظ في شركات الصرافة والمصارف لتصريف القطع كان له أثره أيضاً، موضحاً أن المصرف المركزي يحتاج فترة لترميم الخزينة بالقطع ليتمكن من التدخل بقوة والسيطرة على السوق بشكل محكم.
الوزير يبرر!
أما ما كان مستهجناً في هذه الفترة وبالتزامن مع انخفاض سعر الصرف وزيادة الطلب على المواد الغذائية والإغاثية، هو ما شهدته الأسواق من ارتفاعٍ كبير بأسعار مختلف السلع دون حسيب ولا رقيب، فخلال أسبوع واحد ارتفعت أسعار بعض المواد 20%، وتعمقت حالة الفوضى التي كانت موجودة أساساً، فأصبح فرق السعر بين محل وآخر في نفس الحي يتجاوز 4000 ليرة لبعض المواد، إذ لم يتأخر تجار الأزمات عن الاستجابة للطلب الكبير باستغلال الحاجة وتحقيق الأرباح.
وأمام حالة غضب واستهجان كبيرة لما وصف بزلزال الأسعار، والدعوات لتشديد الرقابة وتطبيق أشد العقوبات على المستغلين لهذه الأزمة، لم يتأخر وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم عن الرد والتبرير للتجار قبل أن يبرروا لأنفسهم، حيث صرح بأن سبب ارتفاع الأسعار هو قلة المواد بسبب الكارثة، بعد أن كانت تشهد نقصاً بالأساس، إذ فقدت بعض المواد نتيجة الطلب الكبير على السلع والمواد الغذائية، مضيفاً أن موسم البقوليات كان كارثياً ولم يكن استيرادها مسموحاً والآن هو مسموح وله أولوية في التمويل، منتظراً نتائج القرارات الحكومية الأخيرة ووصول المواد إلى الأسواق لتنخفض أسعارها.!
مخالفة الصغار ترفع الأسعار
واعتبر سالم أن الأحكام العرفية ستضع سورية في أزمة سياسية، ومخالفة الصغار في وقت القلة ستخفي البضائع وترفع الأسعار لأن البيع سيتحول للسوق السوداء، فيما رأى البعض في تصريحه تشجيعاً لتجار الأزمات في التمادي والاحتكار، بدوره أشار قسومة إلى أن الهجمة على بعض مواد المعونات شكلت ضغط على السوق، وموضوع انخفاض سعر الصرف لا يظهر بيوم ويومين، حيث يحتاج أسبوع متواصل من الاستقرار أو استمرار الانخفاض حتى يجرؤ التاجر على خفض أسعاره، فمن غير المنطقي أن يخفض التاجر الأسعار ليومين ثم يعاود رفعها.
وبيّن قسومة أن البضاعة الموجودة حالياً في السوق تم استيرادها بسعر دولار مرتفع، فالانخفاض بدأ يوم الخميس ولحظنا بعده انخفاض سعر السكر والسردين مثلاً، غير أنه يتطلب بعض الوقت لينعكس على الأسواق بشكل كامل، كما لا يمكن إغفال سعر التمويل الجديد الذي سيصدر عن المنصة، فإن لم يتغير هذا السعر بدوره، لن يكون هناك أي انخفاض على الأسعار.
فتح باب المنافسة
وهنا رأى كنعان أن أسعار السلع محددة على سعر الصرف الحقيقي، لذلك هي مرتفعة، فالانخفاض لـ200 أو 500 ليرة بسعر الصرف لم يؤثر، وهنا بيت القصيد، فما الفائدة من انخفاض سعر الصرف إن كانت الأسعار ترتفع، إذ يتوجب على كل الجهات المعنية تثبيت الأسعار على أقل تقدير بدلاً من التركيز على تخفيض سعر الصرف، مؤكداً على ضرورة إلغاء المنصة والسماح للجميع بالاستيراد والمنافسة لتأمين المواد الغذائية والمواد الأولية اللازمة للصناعة وزيادة الإنتاج.
بدوره اعتبر الدكتور رازي محي الدين أن انخفاض سعر الصرف يتطلب 10 أيام على أقل تقدير لتبدأ انعكاساته بالظهور على أسعار السلع، وإلا فلن يجرؤ التجار على التخفيض في ظل تذبذب سعر الصرف، موضحاً أن شراء الإعانات ممكن أن يؤثر لكن ليس لدرجة رفع الأسعار بهذا الشكل، فبالنهاية المتضررين هم مستهلكين أيضاً وكانوا يتوجهون لشراء هذه الحاجيات بشكل يومي، غير أن الاختلاف قد يكون بتركز الطلب المفاجئ بمحافظات معينة، معتبراً أن تقديم المساعدات بشكل مالي للمتضررين قد يخفف الضغط الحاصل.
أما التجار الذين استغلوا الطلب والكارثة لزيادة أرباحهم وهم معروفون، يرى محي الدين أنه يجب التعامل معهم بأشد العقوبات، مع تشديد الرقابة التموينية على الأسواق لمنع الاحتكار والاستغلال.