في سياق ممارسة الإرهاب الاقتصادي على سورية من غير اللائق لأي دولة متحضرة أن تختار هذه اللحظة للانتقام
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
أسفر الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا صباح يوم 6 شباط الحالي بقوة 7.8 درجة عن وفاة أكثر من 21000 شخص، والذي اعتبر الزلزال الأكثر فتكاً في جميع أنحاء العالم منذ أكثر من عقد.
وبعد وقت قصير من وقوع الزلزال، أعلنت إدارة بايدن أنها كانت تنسق مع المسؤولين الأتراك لتقديم المساعدات المطلوبة، وتنتشر بسرعة لدعم جهود الإنقاذ التركية، وترسل فريق الاستجابة للكوارث التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى تركيا، بينما لم يكن هذا هو واقع الحال فيما يتعلق بسورية، حيث كان فريق بايدن أكثر صمتاً.ففي نفاقه المعهود، أشار بايدن في كلمة له إلى أن “الشركاء الإنسانيين المدعومين من الولايات المتحدة يستجيبون أيضاً للدمار في سورية”.
تظهر هذه التعليقات بشكل واضح رفض إدارة بايدن العمل مع الحكومة السورية، التي كانت هدفاً في سياسة تغيير الأنظمة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
إن الجماعات الإنسانية التي يشير إليها بايدن هي منظمات غير حكومية، وتعمل في مناطق خارج سيطرة الدولة السورية، والتي تستثني حتى الآن بقية البلاد من أي مساعدة من هذا القبيل، بما في ذلك مدينة حلب التي تضررت بشدة. وللتأكيد على ذلك قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس للصحفيين: “أشير إلى أنه سيكون من المفارقات، الاتصال مع الحكومة السورية، لأن الأمر سيؤدي إلى نتائج عكسية، محملاً الحكومة السورية المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي تحملوها”.
إن هذه التصريحات قاسية ومضللة ومنافقة، وهي حجج واهية تستخدمها الإدارة الأمريكية لمنع وصول المساعدات إلى السوريين والذين هم بأمس الحاجة لها لإنقاذ الأرواح بغض النظر عن السياسة، كما أنها مضللة لأن برايس اتهم الحكومة السورية باستخدام الأسلحة الكيميائية، علماً كل الأدلة العلمية والتقارير تشير إلى أن هذه الهجمات المزعومة بالغاز الكيميائي- إذا حدثت بالفعل- فقد قامت قوات الجماعات الإرهابية المسلحة المدعومة من الولايات المتحدة وتركيا بتنفيذها.
بمعنى أنها تصريحات منافقة، لأن واشنطن تدعم العديد من الحكومات التي تتعامل بوحشية مع شعوبها، بما في ذلك تركيا، التي لديها سجل مروع في الإرهاب، ودعم “داعش” في سورية إضافة إلى دعمها لـ أذربيجان في هجومها على ناغورني كاراباخ، كما اتخذت إجراءات استبدادية بشكل متزايد تجاه المعارضين في الداخل في عهد رجب طيب أردوغان، إضافة إلى أن تركيا كانت حليفاً للولايات المتحدة منذ عقود وعضو في الناتو ، وتستضيف قاعدة “إنجرليك” الجوية الكبيرة.
على النقيض من ذلك، أحبطت الحكومة السورية مساعي محاولات الإدارة الأمريكية الفاشلة وحلفائها، بل أحبطت كل الوسائل التي استخدمتها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً على مدى العقد الماضي لإسقاط الحكومة السورية المنتخبة بشكل ديمقراطي. من هنا، يبدو أن إدارة بايدن ترى في الزلزال فرصة لدفع أجندتها من خلال مفاقمة معاناة الشعب السوري وتقويض شرعية الحكومة، على النقيض من ذلك، تحاول إكساب حكومة أردوغان الشرعية من خلال تعاطيها ومساعداتها للنظام التركي للخروج من محنة الزلزال.
الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو
في طاعة عمياء لإدارة بايدن، أعرب رئيس الناتو ينس ستولتنبرغ عن تضامنه الكامل مع تركيا، قائلاً إنه على اتصال مع القيادة العليا في تركيا، وحلفاء الناتو يحشدون الدعم الآن، تاركين سورية تواجه مصيرها. وفي هذا الإطار قال وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي إن المملكة المتحدة أرسلت إلى تركيا فريقاً من 76 متخصصاً في البحث والإنقاذ ومعدات وكلاب إنقاذ، بالإضافة إلى فرق طبية طارئة، بينما استبعدت سورية، على غرار الحلفاء الغربيين الآخرين مثل ألمانيا وبولندا وحتى اليونان، العدو التاريخي لتركيا، التي تعهدت بتقديم “مساعدة فورية” للرئيس أردوغان ، ولكن ليس للشعب السوري الذي بحاجة ماسة للمساعدات إنسانية.
كانت غالبية المساعدات تأتي من جنوب الكرة الأرضية، ومن أصدقاء سورية وأشقاءها العرب الذين لم يتخلوا عنها في مواجهة هذه الكارثة الطبيعية، حيث هبطت طائرات نقل من الإمارات العربية المتحدة، وإيران، وعمان، ومصر، والعراق، وأرمينيا، والصين، والهند، وباكستان، وروسيا محملة بالمساعدات، كما أتاح لبنان بحاره ومطاراته لشحنات المساعدات إلى سورية، حتى فلسطين قامت بإرسال فريق إنقاذ.
صعوبات كبرى
لم يسبق أن شاهد أحد في سورية مثل هذا العدد الكبير من الجرحى، وحجم إصاباتهم من الزلزال، حتى أن فرق الطوارئ في المشافي كانت تواجه نقصاً في المضادات الحيوية والمهدئات والإمدادات الجراحية وأكياس الدم والضمادات. ما يعني أن سورية تواجه صعوبات كبرى وخاصة في الاستجابة للزلزال، وذلك لأن المعبر الوحيد بين سورية وتركيا المعتمد من قبل الأمم المتحدة لنقل المساعدات الدولية إلى سورية لا يعمل، بحسب زعم مسؤولي الأمم المتحدة، بسبب الزلزال الذي ألحق الضرر الكبير بالطرق المحيطة به. وليس هذا فقطـ، فقد استمرت الأمم المتحدة، واستكمالاً لمزاعمهم، أن مطار دمشق الدولي لا يزال يخضع لعمليات إصلاح وصيانة بعد الغارة الجوية الإسرائيلية على المطار في 2 كانون الثاني الماضي، وهو ما يعيق وصول المساعدات الإنسانية. لكن على ما يبدو أن الأمم المتحدة لا تريد الاعتراف أنه بسبب الدمار الذي خلفته الحرب التي دامت 12 عاماً في سورية، و العقوبات الاقتصادية الوحشية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- التي لم يتم رفعها-، إضافة إلى الاحتلال الأمريكي لبعض الأراضي السورية، فضلاً عن عمليات نهب مليارات الدولارات من مواردها وسرقة نفطها، هو ما جعل سورية غير قادرة على الاستجابة الكاملة للكارثة المأساوية.
عقوبات الولايات المتحدة
لقد فرضت إدارة كارتر عقوبات على سورية لأول مرة عام 1979 عندما صنفت سورية على أنها “دولة راعية للإرهاب”، ثم تم فرض جولات جديدة في عامي 2004 و 2011 عندما بدأت الحرب المدعومة من الولايات المتحدة على سورية. وفي كانون الأول 2019، وقع الرئيس دونالد ترامب قانون “قيصر”، الذي يُعرض أي شخص يتعامل مع السلطات السورية لقيود السفر والعقوبات المالية، بينما تُمنع الأدوية والمواد الغذائية الحيوية من دخول البلاد.
نشرت الصحفية المستقلة “فانيسا بيلي” تقريراً على قناتها على” تلغرام” ظهر فيه طائرات الشحن الدولية غير قادرة على الهبوط في المطارات السورية نتيجة الحصار الأمريكي، وطالبت الدول لشركات الطيران السورية بنقل المساعدات على متن طائراتها المدنية . وكما هو معروف، فإن ما يسمى بـ “قانون قيصر” يأتي في سياق ممارسة الإرهاب الاقتصادي، ويعتبر من أخطر أنواع الجرائم ضد الإنسانية .
ونشرت بيلي تصريحاً آخر لرجال أعمال وتجار سوريين منهم النائب السابق في حلب فارس الشهاب: ” أرفعوا عقوباتكم اللعينة حتى نفتح مطاراتنا لتلقي مساعدات دولية. في حلب وحدها تم تدمير أكثر من 50 مبنى مما أدى إلى مقتل المئات وإصابة الآلاف، كما أن آلاف العائلات بلا مأوى. أي نوع من الحكومات الشريرة التي تفرض عقوبات اقتصادية وعقوبات سفر على الدول التي دمرها الزلزال ؟!”.
جريمة ضد الإنسانية
دعا مجلس كنائس الشرق الأوسط إلى الرفع الفوري للعقوبات المفروضة على سورية، متهمين الحصار الحالي بمنع منظمتهم من تنفيذ عمليات إغاثة للزلزال في جميع أنحاء البلاد. وقال الحاضرون في المجلس في بيان: “نحث على الرفع الفوري للعقوبات المفروضة على سورية والسماح بالوصول إلى جميع المواد حتى لا تتحول العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية”.
كما قال المنسق المقيم للأمم المتحدة في سورية مصطفى بن جميلة، ورئيس الهلال الأحمر العربي السوري خالد حبوباتي، خلال مؤتمر صحفي في دمشق إن “عمليات الإخلاء والإنقاذ مقيدة بسبب العراقيل الناجمة عن العقوبات الشديدة، وهناك نقص في الآلات والمعدات الثقيلة اللازمة لرفع الأنقاض، لا أقصد شاحنات أو جرافات، أعني آلات معينة ترفع الأنقاض دون إصابة الأشخاص المحاصرين تحت الأنقاض. الآن، مع هذه الكارثة الطبيعية، حان الوقت لرفع العقوبات”.
كان الكولونيل المتقاعد ريتشارد بلاك، الذي خاض 299 مهمة قتالية في فيتنام، وخدم في مجلس شيوخ ولاية فرجينيا كنائب جمهوري من 2012 إلى 2020، واحداً من عدد قليل من الضباط السابقين رفيعي المستوى العسكريين أو المسؤولين الحكوميين الذين تحدثوا ضد التدخل العسكري للولايات المتحدة في أماكن مثل سورية وأوكرانيا. وبعد يوم على كارثة الزلزال، وصف الكولونيل بلاك رد إدارة بايدن بأنه “عمل انتقامي ضد سورية، لأن العقوبات المفروضة على بلادهم على مدى السنوات الـ 12 الماضية غير أخلاقية. يجب أن أخبرك ، لم أر أبداً مثل هذا الرد الهمجي على مأساة حيث يوجد أشخاص في مدينة حلب السورية يبحثون في أكوام من الأنقاض عن أقرباءهم ، وحياتهم تقترب من نهايتها، إنهم يتجمدون في البرد. إنهم هناك بدون طعام وبدون ماء ويموتون. في غضون ذلك ، تنتهز وزارة الخارجية تلك الفرصة لإعادة التأكيد على حقيقة أننا نشعر بالمرارة لأننا لا نستطيع فرض إرادتنا على الشعب السوري”.
في عام 2020، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على سورية بسبب الغضب من حقيقة أن سورية طردت إرهابيي “داعش والقاعدة” الذين دعمتهم الولايات المتحدة، وكانت تحاول إرباك الحكومة ومحاولة إسقاطها من خلال ذلك . لذا، تنظر وزارة الخارجية الأمريكية الآن إلى هذا على أنه فرصة لتصعيد نظام التجويع والتجميد الذي فرضته على سورية من خلال عقوبات “قيصر” القاسية.
“أشعر بالاشمئزاز من تصرفات وزارة الخارجية الأمريكية. إنه حقاً من غير اللائق لأي دولة متحضرة أن تختار هذه اللحظة للانتقام من فقراء الشعب السوري الذين يعانون الآن”، يختم بلاك كلماته الموجهة إلى إدارة بايدن.