الصين تعلن مبادراتها السلمية.. والغرب يقوّضها عبر التشكيك
البعث الأسبوعية – بشار المحمد:
في خضمّ الواقع العالمي المتأزّم والمتجه نحو المزيد من التصعيد وفقدان الأمان على جميع الصعد، بما فيها أمن الطاقة والأمن الغذائي وحتى الأمن السيبراني، بفعل القيادة الحالية السيئة للعالم، التي كرّست لغة القوة ورجّحتها على المنطق، المتمثلة بالإدارة الأمريكية الإمبريالية، تتدخل الصين طارحةً مبادرتها ودعوتها إلى وقف هذا الواقع ساعيةً إلى التكامل بين وجهها الاقتصادي العالمي الذي تجلّى في “مبادرة الحزام والطريق” ووجهها السياسي السلمي العقلاني، ومحاولةً البحث عن حلول جذرية وحواراتٍ عالمية لإحلال السلام وتعزيز جميع أشكال الحوار والتشاور بين الدول، وذلك في وقتٍ يندفع فيه “الناتو” لزيادة تأجيج الحرب في أوكرانيا لتحقيق تمدّده على حساب السيادة الروسية وسلامة أراضيها، إضافةً إلى تحرّكه وعمله على إثارة التوترات والقلاقل في العديد من بقع العالم ودفعها نحو الحرب، ولاسيما في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي وبين المحيطين الهادئ والهندي.
الصين أبدت استعدادها للتعاون الأمني الثنائي أو المتعدّد مع جميع البلدان والمنظمات الدولية، ومبادرتها تعدّ جدّية وصادقة لأنها تنشد تحقيق النمو سواء لنفسها أم لدول العالم أجمع على اعتبار أنها على علاقة تبادل اقتصادي مع الجميع، بمن فيهم من يكنون لها مشاعر العداء والاتهام بالمنافسة، وهذه ليست المبادرة الأولى لبكين، فقد سبق أن طرحت عبر تاريخها العديد من المبادرات، ومنها مبادرة تجاه الصراع العربي الصهيوني، وأخرى لإعادة الأمن إلى الشرق الأوسط، وهذا نابع من مبادئها السياسية وتوجّهاتها.
تنطلق مبادرة الصين الآن من إدراكها العميق لمدى الخطر المحدق بجميع دول العالم وخاصةً بعد الحرب في أوكرانيا، ومدى الخسائر وتفاقم خطر المجاعة في العديد من دول العالم بما فيها أوروبا، باستثناء وجود طرف رابح يتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، كما تنطلق أيضاً من حجم الضغوط الكبيرة والاستفزازات التي تمارس ضدّها لجرّها نحو الصراع في مضيق تايوان ومحيطها بتحريض أمريكي، أو حتى عبر الاستفزازات الأمريكية المباشرة كما حدث إبان قضية اعتدائها على المنطاد الصيني غير المأهول، حيث تصرّ بكين مع ذلك كله على استخدام لغة الحوار والتشاور قبل أي لغةٍ أخرى ستكون نتائجها غير محمودة لجميع الأطراف مهما صوّرت تلك الأطراف نفسها بمظهر القوي المنتصر، كما يحدث الآن مع دول الغرب الأطلسية التي تتابع خطواتها التصعيدية ضدّ روسيا رغم مضيّ عام على استفزازاتها الفاشلة ورغم ما منيت به من خسائر فادحة وتراجع اقتصادي وصناعي وتجاري واجتماعي.
إنّ ما تقدّمت به الصين يتطلب التقبل من الجميع لضمان نجاحه كحل، وحتى اللحظة فإن دول إفريقيا والشرق الأوسط بادرت بالترحيب والقبول، أما الغرب وحتى الآن يرفض فكرة روسيا المنتصرة كما يرفض فكرة احتفاظها بأراضيها التي تم ضمّها إليها بشكلٍ قانوني ودستوري، وعلاوةً على ذلك يتّهم الصين مستنداً إلى تقاريرٍ إعلامية مفبركة بالتحيّز إلى روسيا، وبأن بكين تدرس دعم موسكو بالأسلحة “وفقاً لما تروّجه التقارير”، لكن على الرغم من ذلك فإن الصين تنفي استخدام مصطلح “التحالف مع روسيا” الذي درج الغرب على استخدامه، وتفضّل استخدام مفهوم “العلاقات الإستراتيجية المتطوّرة مع موسكو” لأنها ليست طرفاً في أي نزاع مسلّح أو عسكري، بغض النظر عن تأييدها الصريح لروسيا في حقها المشروع في الدفاع عن أمنها القومي ضدّ الاستفزازات الأطلسية.
وبالنظر إلى بنود مبادرة الصين للسلم العالمي، نجدها مشابهة لميثاق الأمم المتحدة وفيها تكرار، وهذا ما يوحي بأن الصين تحاول تذكير الغرب بأنه حتى اللحظة لم يطبّق المبادئ التي سبق أن أقرّها قبل عشرات السنين وطال تشدّقه بها، حيث بقيت أشبه بالمثاليات في ظل جنوحهم نحو منطق القوة العسكرية والعقوبات الأحادية الجانب وغيرها من السياسات الفاشلة التي تزيد أزمات العالم سوءاً، والتي حذّرت منها بكين بشدّة.
كذلك أطلقت الصين مبادرتها لإنهاء الصراع في أوكرانيا تحديداً، مبديةً استعدادها للعب دور الوساطة وإيجاد منصّة تفاوض منها لإنهاء الأزمة، ومؤكدةً رؤيتها في سلوك التفاوض كحلٍ مثالي لأنه سيتم التوصل إليه سواء الآن أم حتى بعد سنواتٍ من ويلات الحرب والدمار الذي يؤثر في جميع دول العالم، كما جدّدت دعوتها للغرب إلى التخلي عن عقلية الحرب الباردة والإجراءات الأحادية التي لم تؤدِّ إلى أية نتائج إيجابية حتى اللحظة.
لكن على المقلب الآخر نجد الساسة الغربيين يستقبلون المبادرة بالتشكيك في النيّات الصينية واتهامها بالتحيّز لروسيا، متجاهلة أن الصين لها مثل كل دول العالم المصلحة في إيقاف هذه الحرب، وأن لها علاقات اقتصادية متشابكة مع جميع الأطراف اقتصادياً، حتى وإن كانت علاقتها أقوى أمنياً مع روسيا، كما يرفضون دعوات بكين إلى العالم المتعدّد الأقطاب القائم على علاقات سلمية عادلة بين جميع الدول، في وقت يتأجّج فيه خطر التهديد النووي بشكل كبير، كما تذهب دول الغرب إلى الانطلاق من أن موسكو هي الطرف المعتدي الذي عليه وقف الحرب والانسحاب من الأراضي التي تمت إعادة ضمّها للوطن الأم، دون أية شروط تضمن حقوقه وحقوق شعبه الذي يتعرّض لمذابح واعتداءات النازية الجديدة بدعم وترحيب من “ناتو”.
لقد أطلقت الصين مبادراتها في وقتٍ حساس يتوقّع فيه الجميع توسّع النزاع من أوكرانيا نحو دول أوروبا، بالتزامن مع مؤتمر ميونخ الذي أوضح النيّا الأمريكية في نقل النزاع وتمديده نحو الصين أيضاً، بشكل مترافق مع حملات أمريكية وغربية لنشر الكراهية ضدّ الصين وشعبها في الشارع الأمريكي والشارع الغربي باستخدام جميع إمكاناتهم وماكناتهم الإعلامية المأجورة، على اعتبار أن الغرب دفع أسلحته ومرتزقته لقتال روسيا في أوكرانيا على أمل التغلب عليها “حسب اعتقادهم” ومن ثم التفرّغ إلى صراع يفتتحونه ضدّ الصين، بسبب قلقهم من تفوّقها ونموّها الذي يعدّونه خطراً على سطوتهم على هذا العالم.
بالنهاية، الصين دولة عالمية لا يمكن حل مشكلات العالم دون إشراكها في إيجاد ووضع الحلول، ومبادراتها ستجد طريقها للتنفيذ في ظل الأوضاع القادمة، فأمريكا بعد الآن ستدخل في معترك انتخابي رئاسي بين الجمهوريين والديمقراطيين وسياساتهم الطرفين متباينة حول دعم أو إنهاء الصراع في أوكرانيا والجنوح نحو حل المشكلات الداخلية والاقتصادية، كما أن دول أوروبا الأطلسية وصلت إلى مراحل متقدّمة من نفاد ذخائرها وصواريخها وأموالها على صراع فاشل بجميع المؤشرات، وخاصةً أمام التقدّم الميداني اليومي لقوات الجيش الروسي.