مجلة البعث الأسبوعية

إحدى صور تعزيز سلسلة القيمة ندرة “البصل” هذا الموسم وكساد “الثوم” الموسم الماضي.. يجعل من تطبيق نظرية “الزراعة التعاقدية” خياراً لا بد منه!

دمشق – البعث الأسبوعية

اعتاد الفلاح على جني مكاسب من محصول ليس بوفير في موسم ما كما هو حاصل حالياً بمحصول البصل، وكساد وبالتالي الوقع في مطب الخسارة في مواسم أخرى كما حصل بمحصول الثوم العام الماضي، لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بعدم اعتماد خطة زراعية محكمة ومتابعة تضمن انسياب المحاصيل للأسواق بما يتواءم مع الاحتياج المحلي الفعلي لها من جهة، وتصدير الفائض من جهة أخرى، أو لحظ التصدير بهذا المحصول أو ذاك من خلال الاشتغال على أصناف محددة مرغوبة في الأسواق الخارجية من جهة ثالثة.

لعلّ ما أوضحته وزارة الزراعة مؤخراً من أن المساحات التي تقل عن المساحات القابلة للتنظيم الزراعي تبلغ نحو 35 ٪ من إجمالي المساحات المستثمرة زراعياً، يعزز نظرية اعتماد الزراعة التعاقدية لبقية المحاصيل ولاسيما الخضار والتي لا تخضع إلى التنظيم الزراعي، ومحصول البصل أحد هذه المحاصيل –حسب بيان وزارة الزراعة- إذ يقوم الفلاحون بزراعته وفقاً لسياسة العرض والطلب والأسعار الرائجة في السوق لعام سابق، حيث أن محصولي الثوم والبصل تتناوب فيهما الكميات المنتجة بين سنتين متتابعتين بين فائض وعجز ما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره في سنة نقص الإنتاج وانخفاضه في سنة فائض الإنتاج، ولتنظيم استقرار الأسعار يتم السماح بتصدير الفائض في حال وجوده بالإنتاج.

عقد

للتوضيح بداية تجدر الإشارة إلى أن منظمة الزراعة والغذاء عرفت الزراعة التعاقدیة على أنھا “إنتاج زراعي (خام أو مُصنّع) یتم وفقاً لاتفاق (عقد) بين المشتري كطرف أول في العقد سواء كان مصدراً أو مُصنعاً أو تاجراً، والمزارعين المُنتجين كطرف ثاني، يحدد بموجبه شروط إنتاج وتسویق المنتج وفق كمیات وأسعار مُتفق علیھا وینبغي أن تستوفي المنتجات المستھدف إنتاجھا معاییر الجودة التي یحددھا المشتري خلال الوقت المتفق عليه أيضاً، وفي المقابل فإن المشتري إما أن يكتفي بالالتزام بشراء المنتج فقط، أو أن يدعم الإنتاج من خلال توفير المدخلات أو تقديم سلف نقدية بعد التوقيع أو توفير المشورة الفنية أو القيام بنقل المحصول.

إذا ما استعنا بما سبق وأصدره المركز الوطني للسياسات الزراعية من دراسة حملت عنوان “الزراعة التعاقدية وفرص تطبيقها في سورية”، فسنجد أن الزراعة التعاقدية هي أحد صور تعزيز سلسلة القيمة لأنها وسيلة للربط بين المزارع والجهات التسويقية الراعية، حيث تتعهد تلك الجهات بشراء المحاصيل الزراعية مسبقاً ضمن معايير محدد للجودة والكمية التي توفر للمزارع فرصة الحصول على مجموعة أوسع من الخدمات الإدارية والفنية والإرشادية.

مبررات

لا شك أن ثمة مبررات تستوجب اعتماد الزراعة التعاقدية، وتكمن بخفض تكلفة المعاملات والممارسات التسویقیة، والتقلیل من حجم المخاطر المتصلة بالكمیة والنوعیة للمنتجات الزراعیة مقارنة بالزراعات العادیة من خلال وجود سعر وكمیة ونوعیة ووقت محدد موثق، مع الإشارة هنا إلى أن التنسیق من خلال التعاقد سوف یؤدي إلى تخفیض المخاطر السعریة إلى حد ما، إضافة إلى أن خصائص الإنتاج والتسویق الزراعي تلائم التعاقد في الزراعة كون المنتجات الزراعیة الطازجة (الخام) كبیرة الحجم سریعة التلف وبما یحصر تعاملھا في المشترین القریبین من مواقع الإنتاج ویفرض تكلفة أعلى في حال التسویق لمناطق أبعد عن مراكز الإنتاج، بینما الصناعات الغذائیة تتطلب منتجات زراعیة معینة ذات مواصفات محددة وهذا يعتبر مانعاً لخروج الفلاح من مجال الإنتاج ویجعل عرض المنتجات الخام غیر مرن.

مجالات تطبيقها

تناولت الدراسة الموما إليها آنفاً إلى مجالات التطبیق المقترحة للزراعة التعاقدية والوجھات التسویقیة المقترحة في سوریة، مشيرة إلى أن الخضار والفواكه یمكن أن تسوق محلیاً وخارجياً، لاسيما تلك التي تعاني من مشكلات تسویقیة من حیث الفائض في الإنتاج على مدى سنوات عدة وھو الأمر الذي یسبب خسارة للمزارعین وتذبذب الأسعار بین مركز الإنتاج وبقیة المناطق كالحمضیات وخاصة في حال تطبیق نوع من التطعیم للحصول على الأصناف والأنواع المرغوبة للتصدیر للأسواق الخارجیة المستھدفة.

وكذلك المنتجات المصنعة (مخللات ـ صناعات سكریة- كونسروة- محاصیل زیتیة)، و الألبان والأجبان والزبدة والمرتدیلا، وأيضاً المحاصیل البدیلة والتي تحتاج إلى نشر زراعتھا إلى زیادة معدل التبني في مراحلھا الأولى عن طریق الزراعة التعاقدیة.

كما أنه لابد من التوجه نحو الزراعات ذات الدورة الزراعیة القصیرة كالنباتات العطریة والطبیة وكذلك الزراعات المستحدثة التي یمكن أن تعطي ربحیة عالیة من خلال قلة الطلب الداخلي علیھا وارتفاعه في البلدان الأخرى نتیجة اختلاف أذواق وثقافات المستھلك المحلي عنھا في الخارج، كالخیار الشوكي والبندورة الكرزیة والخرشوف وبعض الزراعات نباتات الزینة والوردة الدمشقیة التي یمكن أن تكون سوقاً رائجة في الخارج وخاصة بعد الاهتمام بزراعتھا في مناطق جدیدة، والاھتمام بالترویج لزراعتھا وصناعتھا المتصلة بزیت الورد وماء الورد وغیر ذلك، أما الأسواق والوجھات المستھدفة، فھي (الأسواق المحلیة – معامل التصنیع – الأسواق الخارجیة التصدیریة للدول والبلدان الصدیقة والمجاورة).

تشريع خاص

قبل بدء الدخول بمضمار التعاقد على المنتجات الزراعیة في سوریة یجب التحضیر للبیئة التشریعیة والمؤسساتیة المواتیة. وفي ھذا المجال من المھم سن تشریع خاص للتعاقدات الزراعیة یشمل كافة التفاصیل المرتبطة ببنود العقود وكیفیة تسجیلھا وإجراءات تسجیل العقود لحمایة المتعاقدین من أية قرارات منع تداول أو تصدیر،  وكذلك لابد من التعریف بالزراعة التعاقدیة من خلال ندوات تقیمھا مدیریة الإرشاد الزراعي والجمعیات الفلاحیة بالتعاون مع الجھات المعنیة الأخرى لتعریف الفلاح بھا أولاً، وفي مرحلة لاحقة تعریف التجار وأصحاب الشركات والمعامل والمؤسسات وغیرھا. إضافة إلى توعیة المزارعین بأھمیة العنایة بجودة المنتج والتدریب على القیام بعملیات التداول الأمثل لما بعد الحصاد، إلى جانب التعریف بأھمیة التعاقد على بیع المحصول، وضرورة إیجاد اتحاد نوعي أو جھة ضامنة لتشرف على التعاقدات الزراعیة ومدى الالتزام بشروطھا، كلجنة تسییر أعمال سوق الھال في دمشق فیما یخص موضوع الخضار والفاكھة، كما أنه لا بد من استحداث خطوط ائتمانیة لدى البنك الزراعي والبنوك التجاریة تسمح بتمویل العقود الزراعیة المبرمة والمؤمن علیھا.

واقترحت الدراسة إنشاء مركز للتسجیل والتحكیم السریع والعادل للبت في المخالفات وتمتع العاملین فیه بالخبرة الكافیة لذلك والحیادیة التامة وبناء قاعدة معلومات استرشادیة، والاتجاه نحو تطبیق الزراعة التعاقدیة على الخضار والفواكه الطازجة والتي یمكن أن تسوق محلیاً وخارجياً كالحمضیات، وخاصة عند تطبیق التعاقد على الحمضیات المطعمة للحصول على أصناف والأنواع المرغوبة للتصدیر للأسواق الخارجیة المستھدفة وبالسرعة المطلوبة، والقیام بدراسات وأبحاث مستقبلیة في مجال التسویق بصفة عامة وفي موضوع الزراعة التعاقدیة بصفة خاصة، ووضع برامج متكاملة لتطبیق نظام الزراعة التعاقدیة بالاستفادة من التجارب العالمیة، وتعامل المزارعین مع العقود من خلال الجمعیات الفلاحیة وھو ما من شأنھ تعزیز الموقف التفاوضي للمزارعین ومساعدتھم على الانتقال نحو مستوى أعلى في سلسلة الأنشطة المضیفة للقیمة إلى عملیات تغلیف المنتجات وتصنیعھا وتسویقھا.

آلية تقليدية!

تتمیز الجمھوریة العربیة السوریة بتنوع البیئات الزراعیة وإمكانیة إنتاج العدید من الحاصلات الزراعیة كالحبوب والبقولیات والخضروات والأشجار المثمرة، فضلاً عن توافر البیئة الخصبة لتربیة الحیوان والحصول على إنتاجه بما یلبي الاحتياجات الاحتیاجات المتزایدة للمواطنین من الغذاء، إلى جانب تأمین حاجة قطاع الصناعة من المواد الخام الزراعیة، وھذا بدوره یساھم في تحقیق الأھداف المرجوة للسیاسة الزراعیة السوریة.

بشكل روتیني وبعد جني الإنتاج الزراعي في نھایة كل موسم زراعي في سوریة ینقل المزارع السوري إنتاجھ الزراعي المعروض للبیع بنفسه بواسطة شاحنات صغیرة أو متوسطة السعة وغالبا ما تكون مكشوفة ومعرضة لأشعة الشمس والعوامل الجویة الأخرى إلى الأسواق الشعبیة المحلیة القریبة من مكان الإنتاج الأساسي أو إلى الأسواق المركزیة في المحافظة، أو حتى یقوم بنقلھا إلى أسواق المحافظات الأخرى التي تلقى فیھا رواجا، إلا أن ھناك طریقاً آخر أسهل وأضمن  یسلكھا المزارع لتصریف إنتاجه تتمثل ببيعه إلى الضمان أو سماسرة تجار الجملة ونصف الجملة أو حتى ملاكي مراكز التوضيب والتصدير مباشرة حیث یتم نقل الإنتاج إلى الأسواق أو المراكز المذكورة ضمن المحافظة نفسھا أو إلى محافظة أخرى. وبعد أن تصل المنتجات الزراعیة إلى الأسواق المركزیة أو أسواق الجملة یأتي دور الوسطاء من تجار الجملة ونصف الجملة لنقل ھذا الإنتاج وبیعه في أسواق المفرق أو لباعة المفرق.

وبما أن عملیات التصنیف والتوضیب تأتي بعد قطاف وجني المحاصیل الزراعیة فھي تعتبر جزء من الرحلة التسويقية لھذه المحاصیل ولكنھا تتم بشكل غیر كامل وغیر دقیق وبصنادیق خشبیة وعبوات بولستر، وتشحن ھذه المنتجات غالباً بھذا الشكل إلى أسواق الجملة في المحافظة أو سوق الجملة المركزي في محافظة دمشق لیتم بیعھا لقاء عمولة متفق علیھا، وفي بعض الأحیان یتم بیع الإنتاج الزراعي دون عملیات تصنیف وتوضیب في ھذه الأسواق باستثناء تحسین الوجه العلوي للصندوق، أما عملیات التصنیف والتجھیز بشكله الكامل والدقیق فیتم في ورشات ومراكز متخصصة تعود ملكیة معظمھا للمصدرین وتقوم ھذه المشاغل والمراكز بتصنیف وتوضیب وتجھیز الخضار والفواكه التي یتم شرائھا من أسواق الجملة ونصف الجملة وأحیانا ومن أھم المحاصیل المعنیة بھذه العملیات: التفاح والحمضیات والعنب والبندورة والبطاطا.

دافع للتنظيم

بعد ھذا العرض المبسط لواقع وملامح التسویق الزراعي في سوریة وما یعانیه من مشكلات سالفة الذكر، فلابد من عملیة تنظیم وترتیب للرحلة التسویقیة قبل الدخول بمضمار الزراعة التعاقدیة لتتلاءم مع شروطھا، وبذلك تكون الزراعة التعاقدیة دافعا لتنظیم بنیان التسویق الزراعي بغیة حل جزء من مشكلاته واستجابة لارتفاع تكالیف المعاملات ومخاطرھا والاستفادة  من مزایا التطبیق والتوجه نحو التعاقدات الزراعیة والمتمثلة بزیادة دخول المزارعین وخاصة الصغار منھم، والاستفادة من الفرص التسویقیة المتاحة وزیادة معدلات التصدیر، وإيجاد المزید من فرص العمل في قطاع الصناعات الزراعیة، وتعزیز القدرة التنافسیة للمنتجات الزراعیة وبالتالي تحسین أوضاع المیزان التجاري، والارتقاء بالمستوى الصحي لسلع الغذاء وسلامة الغذاء.