مجلة البعث الأسبوعية

خان الوزير ذاكرة طريق الحرير

حلب-غالية خوجة

تحتفل العراقة بذاكرة محلية إنسانية عربية وعالمية في حلب، وتقرع الأجراس بعد صمودها أمام الحرب والزلزال، ويظل صوتها متسعاً بين المجرات، متسائلاً عن ذنبها في أزمنة الظلام؟ فتجيب كُتب الرحالة والمؤرخين والأدباء عن أحوالها، كما تجيب الوفود السائحة التي زارتها في الفترة المعاصرة والقديمة، لتحكي ما لا يُحصى عن مدينة أثرية أسطورية، كانت وما زالت بموقعها الاستراتيجي وحيويتها الحياتية مغناطيساً نشطاً لسكان المعمورة وتجّارها وعلمائها وأدبائها وموسيقييها، وهم يفتخرون بتجوالهم في الشهباء كإحدى أهم محطات طريق الحرير.

مدينة السبعين خاناً

اعتاد طلاب العلم والتجار والسائحون على الإقامة في الخانات التي تعتبر من أهم المعالم الأثرية التي بنيت لاستقبال القوافل التجارية والقاصدين لأغراض وأهداف مختلفة، كونها متاجر وفنادق على الطريقة القديمة التي تأخذ بعين الإقامة حاجات الزائر الشخصية لا سيما التاجر في الراحة والنوم، وحاجات بضائعه وحيواناته، لذلك لا بد من وجود إسطبل في كل خان.

وهذه الخانات تنتشر في سوريتنا الحبيبة، ومنها حلب المشتهرة بخاناتها السبعين، منها خان النحاسين وخان الشونة وخان القطن وخان الجمرك وخان الوزير الذي يقع بين القلعة والجامع الأموي الكبير، والذي بناهُ سنة 1682 قره محمد باشا أحد ولاة حلب.

حالة بانورامية فريدة

يستقبل خان الوزير زائره برائحة غابرة، وأشجار معمّرة، منها الكرمة التي ما زالت عناقيدها الموسمية تتدلّى حتى الآن بطعمها المميز، وحجارةٍ تسجّل في ذراتها دهشة الوفود العربية والأجنبية، وفضاءٍ متأمل يستقبل ويبثّ الأشعتين الذهبية والفضية، ويقف بشموخ ليخبر الناس كافة عن مبناه وأبوابه ونوافذه ونقوشه، وكيف أنه مبنى يتألف من باحة سماوية يتوسطها مسجد، وتحيط بها محلات تشكل الطابق الأرضي المكتمل مع الطابق العلوي وغرفه التي تفصلها أروقة تحملها القناطر، وينضم هذا المشهد البانورامي إلى جمالية المعمار المنعكسة من الزخارف الحجرية خاصة على البوابة من الداخل والخارج، ولا تقلّ النوافذ فنية عن جمال البوابة والواجهات الأربعة المحيطة بالساحة كما تحيط الجهات بكوكب الأرض، والواجهة عبارة عن غرف مسقوفة ومحمولة على أقواس فارسية.

من يدخل الخان، متمعناً في بابه الحديدي الثقيل الحاضن لباب صغير، والمطرز بمسامير حديدية عملاقة، يتساءل: كيف امتلك هؤلاء الرجال كل تلك القوة في تصنيع الباب ثم في عملية فتحه وإغلاقه؟!

فضول الزائر

ولا بد للداخل من أن يشم رائحة العبق القديم المختلط بالحالة المعاصرة حيث الباحة تحولت إلى مكان لإيواء سيارات التجار التي كانت وسائل نقلهم السابقة من الكائنات الحية كالبغال والخيول، بينما المحلات الأرضية فتزخر بتجارة الأقمشة والخيوط، ومكاتب الاستيراد والتصدير، وبيع الجملة، كما تزدحم بالزوار من مختلف الجنسيات والأعراق واللغات الذين يستمتعون بما يشاهدونه من أزمنة مضت غير متوانين عن إبداء إعجابهم بالتراث الحضاري واستمراره في الحياة اليومية والمنتوجات السلعية الحديثة خاصة في مجال القطنيات، أيضاً، ينبهرون بـ”السبيل” القريب من الخان، والسبيل عبارة عن ماء يسقي العطاش يقدمه واحد من الناس كنذر، وهي عادة أصيلة من عادات أهل الخير الذين يهتمون إنسانياً بغيرهم من المتجولين والعابرين والمقيمين.

وينمو فضول الزائر بين طيات الذاكرة ومعالمها، فيتجول بين القلعة وخان الوزير وخان الشونة المبني سنة 1546 والمؤلف من قيسارية على شكل سوقين، تم ّ تحويلها بعد ترميمها سنة 1980 إلى سوق للصناعات الشعبية والحرف اليدوية كالعباءات والسبحات والأواني الأخرى والاكسسوارات وصابون الغار والمناخل والأصواف والأجواخ والعطور والحِبال والأزياء والأنتيكات والمأكولات والضيافة المتنوعة.

ثم ينعطف إلى المدارس التي كانت هنا، ويدور حول القلعة ليشاهد أهالي حلب بأطيافهم المختلفة، ويومياتهم المترادفة، وأحاديثهم المتواصلة عن الأحداث التي مرت بهم، وبإمكان العابر أن يستمع لأم محمد الشهيد عن ابنها البطل، بينما تحكي لها جارتها عن ابنها جريح الوطن وكيف هبّ للإغاثة أثناء الزلزال.

للعابر أن يستمع لنقاش صبيتين عن دراستهما، ويلحظ كيف يتسلق بعض الصبية من خندق القلعة إلى سفحها المنسوج بالأعشاب الخضراء النابتة حديثاً، وينجو من ضربة كرة يلهو بها الأطفال واليافعين مستذكراً طفولته فيبتسم وهو عائد إلى خان الوزير متفائلاً بحياة قادمة، لا سيما وأن مشروع الترميم وإعادة البناء ما يزال متواصلاً، خصوصاً، بعدما تأثرت هذه الأبنية التراثية الإنسانية الموجودة على لائحة اليونسكو بكل من الحرب الإرهابية على سورية، وزلزال 6 شباط، وما يزال الحلبية مصرين على تفتيح الحياة وأيامها مثل الأزرار والثمار في خان الوزير وكل شبر من أرض هذا الوطن العابر لكل الأزمات بضوء روحي ووطني وواقعي وعملي.