الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نبل الرسالة

سلوى عباس 

قرأتُ قبل أيام مقالة تتحدّث عن حكاية أحد المعلمين مع مهنة التعليم والأسلوب الذي ينتهجه في إيصال رسالته لطلابه بأنه في بداية العام الدراسي سأل كلّ طالب من طلابه عن الحلم الذي يرغب بتحقيقه عندما يكبر. وتراوحت الإجابات ما بين الطب والهندسة والمحاماة والصحافة، وغيرها.

ما أسعد هذا المعلم أن أحلام طلابه لم تمت. وبناءً عليها، عمل على توزيع جلوسهم في الصف، بحيث يكون الأطباء إلى جانب بعضهم، وكذلك الحال بالنسبة للمهندسين وللمحامين وللصحافيين.. وغيرهم، وكتب على كتاب كلّ واحد منهم لقبه، وبدأ يمارس مهنته كمعلم لهؤلاء الطلاب الذين آمن بذكائهم وإرادتهم. وبالمقابل، كان بينهم من يخطئ ومن يتكاسل، ومن لا يكتب الواجب. وهنا كان العقاب حاضراً، ليس بالضرب أو التوبيخ وإنما بأسلوب يحفّز لديهم الحلم، إذ كان يعمل على “سحب أحلامهم منهم”، ويجلسهم في مكان خاص بالفصل، سمّاه “الشارع”، وكان هذا العقاب يزعجهم ويجعلهم يضاعفون جهودهم للرجوع إلى أماكنهم واستعادة ألقابهم المفضّلة لديهم. وبهذا الشكل، ارتفع مستوى التلاميذ في الصف، وأخذوا ينجزون واجباتهم المنزلية أولاً بأول، ويدرسون باجتهادٍ كبيرٍ وتنافسٍ شريفٍ، وكان أستاذهم يشجّعهم أحياناً بتقديم هدايا لكلّ منهم، تناسب مجال حلمه. ومع انتهاء الفصل الدراسي الأول، كانت علاقة من المودّة تجمع بين الأستاذ وطلابه وأحبّ التلاميذ الدراسة والمدرسة والأستاذ، وفي نهاية العام، كانت النتيجة تفوق هؤلاء التلاميذ على باقي طلاب المدرسة بفارق كبير، وعندما سأل المدير وباقي الأساتذة هذا المعلم عن الأسلوب الذي اتبعه مع طلابه حتى وصلوا إلى هذا المستوى، أجابهم: “طريقتي في التدريس وأسلوبي لا يختلف عن أساليبكم، أنا فقط جعلت كلّ تلميذ يدافع عن حلمه”.

هذه الحكاية تؤكد أن المعلم كالياسمين رسالته عبقه الذي ينثره على أرواح طلاب يعدّهم للمستقبل الواعد، وهو مثال يُحتذى للطالب، فبقدر ما يحترم رسالته ويكون وفياً لها بقدر ما يحصد نتيجة تعبه ثماراً يانعة. وهنا تحضرني حادثة عشتها وأنا في الصف الخامس الابتدائي، عندما أخبرتنا مديرتنا أنها ستنتقل إلى مدرسة أخرى، وطلبت منا أن نخبر ذوينا إذا كانوا يرغبون بنقلنا إلى تلك المدرسة، فما كان مني إلا أن أخبرتها برغبتي بالذهاب معها في رحلتها الجديدة، لقناعتي أن أهلي سيوافقون على قراري، فهي مدرّسة قديرة ومشهود لها، وكذلك المدرسة التي كنا فيها وتحمل اسم المناضلة جميلة بوحيرد، والمدرسة الجديدة التي تحمل اسم شاعر المعرة، أبو العلاء المعري، أيضاً، كان لها سمعتها الجيدة، ولو أنها تختلف الآن كثيراً، لأن طبيعة فهم الرسالة التربوية والتعليمية اختلفت، وأصبحت تخضع لمعايير يفرضها الأهل والقائمون على العملية التعليمية. ومع ذلك يبقى هناك معلمون ما زالوا متمسّكين برسالتهم وقيمهم وضميرهم الحيّ.

في “يوم المعلم”، اليوم الذي ما زال رغم كلّ الظروف يمثّل حالة من النبل والسمو، أقول لكلّ المعلمين الذين ما زالوا يؤمنون بأن العلم هو منقذنا من ليلنا الطويل: تسافر كلماتنا الدافئة إليكم، حيث يقبّل شعاع الشمس عيونكم، ولتكن قلوبكم العامرة بالحب غيومنا الزرقاء، وفي اصطفاء الأبيض وغسق النهار نرمي حفنة من سهر يعتلي شهباً من رقائق مدارية تصحب الإنشاد للفجر الطويل، ومع بهجة العيد نحلّق في فضاء فردوسكم الفسيح، نتنشّق عبيركم الذي يحيي نسغ الحياة في عروقنا، حيث يبقى نبلكم منارةً لكلّ من ضلّت بهم الحياة، ولتثبتوا أن أصحاب القلوب النبيلة كالياسمين رسالتهم نبلهم وعبقهم.