انحسار الدور الأمريكي وأوهام “نهاية التاريخ”
ريا خوري
بعد النجاح الكبير الذي حققته الدبلوماسية الصينية في إعادة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية، تحرّكت الصين نحو جمهورية روسيا الاتحادية، وطرحت مبادرة من أجل حل الخلافات الروسية الأوكرانية.
هذه الدبلوماسية تركت أثرها الكبير، وأحدثت جدلاً واسعاً، لكن الذي كان له الوقع الأكبر والأكثر تأثيراً هو أن يتم الإعلان عن الاتفاق من العاصمة الصينية بكين، وهو ما كان سبباً في ظهور مئات بل آلاف التعليقات والتحليلات في الغرب الأوروبي – الأمريكي أكثر منها في منطقة الشرق الأوسط، حيث عاد الحديث من جديد بقوة وزخم كبيرين عن تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة الأمريكية، وعن سعي الصين لتوسيع نفوذها ومد قوتها خارج حدودها، ليس تجارياً واقتصادياً فقط، بل سياسياً واستراتيجياً أيضاً.
في هذا السياق ونتيجة لردود الأفعال الكبيرة على الاتفاق تبين التفاوت الكبير في الرؤى حول مستقبل ذلك الاتفاق، فقد قلل عدد من المحللين السياسيين من أهميته، بينما نظر عدد كبير آخر إلى الأمر على أنه تراجع حقيقي للولايات المتحدة الأمريكية، لهذا فإن دخول الصين بهذا الشكل على خط سياسات المنطقة كان في غاية الأهمية وذلك لعدة اعتبارات منها أن هناك تطوراً كبيراً لمنهج واستراتيجية السعودية ومعها دول الخليج العربي، وهذا التطوّر كان بادياً منذ فترة ليست بالقصيرة، بخاصة وأنها تعتمد على تنويع علاقاتها الخارجية وتحالفاتها بشكلٍ متوازن. وفي هذا السياق كان التوجه شرقاً لموازنة العلاقات التقليدية مع الغرب، بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن ذلك كما يصوره البعض في الغرب الأوروبي – الأمريكي تبديلاً وإحلالاً للتحالفات وعلاقات التعاون بين الدول، وإنما “تنويع” ضروري لتعظيم قوة حماية المصالح من دون اعتماد على قوة محددة على طرف معين مهما كان.
لم تستوعب الولايات المتحدة الأمريكية الدرس، وما زالت تصر على تبني مواقفها السياسية والأمنية الاستراتيجية وتصوراتها على أساس ما وضعه الإنكليز في مطلع القرن العشرين الماضي، وهذه هي المشكلة العميقة في بنية التفكير الأمريكي منذ زمن بعيد، حيث لا تأخذ الولايات المتحدة في الاعتبار أي تعامل ندّي، وعلى قدم المساواة مع معظم دول العالم.
إن محاولات ترسيخ وتثبيت “نظام عالمي جديد” يعتمد على أوهام “نهاية التاريخ” كالتي وضعها فرانسيس فوكوياما وتسيّد النمط الغربي على الإنسانية جمعاء فشلت فشلاً ذريعاً، وأتت بنتائج عكسية ارتدّت قاسياً، وبالتالي نالت من الدور الأمريكي عالمياً مكانةً وقوةً، وحتى في داخل التحالف الأوروبي الغربي ذاته.
منذ عشر سنوات تقريباً، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة “فك ارتباط” بشكلٍ عملي مع العالم بدرجاتٍ متفاوتةٍ، ولأن أكثر مغامراتها العسكرية الخارجية كانت في منطقتنا العربية، فكان فك الارتباط مع المنطقة أوضح أثراً وأبلغ صورةً، ولا يختلف هنا الديمقراطيون عن الجمهوريين أبداً، فإذا كان فك الارتباط بدأ بقوة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، فإن الرئيس السابق دونالد ترامب الذي بدا متقارباً مع المنطقة، لم يكن في الحقيقة سوى ساعٍ وراء تحقيق بعض الصفقات المالية والاقتصادية والعسكرية وكلام الإنشاء الطويل الذي كان يقدّمه .
أما إدارة الرئيس جوبايدن، التي ادعت منذ يومها الأول أنها ستستعيد دور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، فلم تكن أقل عنجهية وغطرسة في تعاملها حتى مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، حيث كانت ذروة ذلك الضغط الفج والمرفوض على الدول العربية وإيران وتركيا كي تتخذ موقفاً غير محايد من الحرب في أوكرانيا، مع التجاهل التام لمصالح هذه الدول. وأمام ذلك ما كان من الصين إلّا أن سعت ومعها روسيا والهند، وغيرها من الدول والقوى الصاعدة لملء مكانتها الإقليمية والدولية الحقيقية، والذي سيكون بلاشك على حساب القوة العظمى الوحيدة التي هي الولايات المتحدة ودورها المهيمن عالمياً.