لعبة الأمم اللا أخلاقية في سياسة القوة الأمريكية
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
تقضي الحروب بالوكالة على البلدان التي تزعم الدفاع عنها، وبالتأكيد سيأتي الوقت الذي ستستغني فيه الولايات المتحدة عن الأوكرانيون، وتضحي بهم كما فعلت مع الكثيرين من قبلهم، حيث سيختفي ذكرهم من الخطاب القومي الأمريكي والوعي الشعبي إلى الأبد.
ثمة طرق عديدة يمكن لبلد ما إبراز قوته وإضعاف خصومه، لكن الحروب بالوكالة هي واحدة من الطرق الأكثر سخرية وقسوة، حيث تستخدمها دول تضحي بالبلدان التي تزعم الدفاع عنها، ويلجأ صانعو هذه الحروب لخداع الدول أو المتمردين للقتال من أجل أهداف جيوسياسية لا تكون في مصلحتهم في نهاية المطاف.
علي سبيل المثال، أظهرت مجريات الأحداث أن الحرب في أوكرانيا كانت بعيدة كل البعد عن الحرية الأوكرانية التي تروج لها الولايات المتحدة، وأن هدفها الرئيس ليس إلا محاولة إضعاف الجيش الروسي. لذا فمن المؤكد أنه سيتم التضحية بأوكرانيا، عندما تصبح هزيمتها مؤكدة، أو تصل الحرب إلى طريق مسدود، مثلما حدث مع العديد من الدول الأخرى، وهذا تماماً ما أشار إليه مايلز كوبلاند جونيور أحد الأعضاء المؤسسين لوكالة الاستخبارات المركزية، باسم “لعبة الأمم اللا أخلاقية في سياسة القوة الأمريكية”.
منذ عقود وحتى يومنا هذا، تحافظ الولايات المتحدة على هيمنتها وسياساتها الأحادية من خلال القمع والعقوبات والتدخل العسكري، وشن الحروب بالوكالة. ففي أمريكا الوسطى سلحت الولايات المتحدة الأنظمة العسكرية في السلفادور وغواتيمالا، ودعمت جماعة الكونترا بهدف الإطاحة بالحكومة الساندينيستا اليسارية الحاكمة في نيكاراغوا، كما دعمت التمرد في إقليم البنجاب، وهي حرب بالوكالة أشعلتها باكستان.
من المؤكد أن السيطرة على الحروب بالوكالة أمر بمنتهى الصعوبة، خاصة عندما تتباين تطلعات أولئك الذين يقاتلون مع من يرسلون الأسلحة. وفي كثير من الحالات ينخرط رعاة الحروب بالوكالة بشكل مباشر في الصراع، كما حدث للولايات المتحدة في فيتنام و”إسرائيل” في لبنان.
أسلحة بيد أمراء الحرب
في هذا السياق، تُمنح الجيوش بالوكالة أسلحة مع قدر ضئيل من المساءلة، وينتهي الأمر بكميات كبيرة منها في السوق السوداء أو في أيدي أمراء الحرب أو الإرهابيين. وفي تقرير لـ شبكة” سي بي إس نيوز” العام الماضي، أشار التقرير إلى أن حوالي 30 في المائة فقط من الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا تصل إلى الخطوط الأمامية، وهو تقرير اختارت التراجع عنه جزئياً تحت ضغط شديد من كييف وواشنطن. كما وثقت الصحفية الأمريكية ليندسي سنيل، انتشار المعدات العسكرية والطبية التي أرسلت كمساعدات، في السوق السوداء في أوكرانيا، حيث تصبح الأسلحة في مناطق الحرب سلع مربحة.
حولت الدول الراعية للحرب والتي لطالما اعتبرت أوكرانيا واحدة من أكثر الدول فساداً في أوروبا، أمراء الحرب وأفراد العصابات والمجرمين إلى مناضلين بطوليين من أجل الحرية.،حيث تحتفي الولايات المتحدة “بفضيلتها” الوطنية المثيرة بعد عقدين من الإخفاقات العسكرية في الشرق الأوسط، من خلال دعم أولئك الذين يخوضون هذه الحروب بالوكالة. وبالرغم من الأرقام الاستطلاعية القاتمة، يعتزم جو بايدن، الترشح لولاية ثانية كرئيس في “زمن الحرب” يقف إلى جانب أوكرانيا، التي خصصت لها الولايات المتحدة 113 مليار دولار كمساعدات عسكرية واقتصادية و”إنسانية”.
قال بايدن بعد زيارته الخاطفة إلى كييف: “عندما غزت روسيا، لم تكن أوكرانيا وحدها موضع الاختبار، واجه العالم كله اختباراً لمدى العصور و كانت أوروبا تحت الاختبار، كما تم اختبار أمريكا و كان الناتو قيد الاختبار، لقد تم اختبار جميع الديمقراطيات”.
مشاعر مماثلة
في الحقيقة، هذه “المشاعر” التي عبر عنها بايدن لم تكن فريدة من نوعها، فقد لجأت الإدارات الأمريكية السابقة لاستخدام عبارات مماثلة لتبرير حروب أخرى بالوكالة. قال رونالد ريغان عن الجماعات المتمردة الممولة والمدعومة أمريكياً “الكونترا”، الذين نهبوا واغتصبوا وذبحوا في طريقهم عبر نيكاراغوا: “إنهم إخواننا، هؤلاء المدافعون عن الحرية، ونحن مدينون لهم بمساعدتنا، إنهم متساوون أخلاقياً مع آبائنا المؤسسين ورجال ونساء المقاومة الفرنسية الشجعان، ولا يمكننا الابتعاد عنهم، لأن الصراع هنا ليس يميناً مقابل يساراً، إنه صواب مقابل خطأ”.
كما قال جون ماكين عن الرئيس دونالد ترامب: “أريد أن أسمعه يقول إننا ذاهبون لتسليح “الجيش السوري الحر” والاطاحة بالحكومة السورية، وجعل الروس يدفعون ثمن انخراطهم. سيتعين على جميع اللاعبين هنا دفع غرامة وستكون الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب الأشخاص الذين يناضلون من أجل الحرية”، بحسب زعمه.
في الحقيقة، غالباً ما يوصف أولئك الذين يتم تكريمهم كأبطال للمقاومة، مثل الرئيس زيلينسكي أو الرئيس حامد كرزاي في أفغانستان بأنهم غير مؤهلين ويعانون من مشاكل، خاصة وأن غرورهم وحساباتهم المصرفية تتضخم. لذا فمن النادر ما يتطابق المديح المفرط الذي يوجهه الرعاة نحو وكلائهم في الأماكن العامة، مع ما يقولونه عنهم على انفراد.
وفي محادثات اتفاق “دايتون” للسلام، حيث باع الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش زعماء صرب البوسنة وكروات البوسنة، قال عن وكلائه: “إنهم ليسوا أصدقائي، و ليسوا زملائي … إنهم حمقى”.
كتبت صحيفة “واشنطن بوست” بعد الحصول على تقرير داخلي صادر عن مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان: “الأموال المظلمة تتدفق في جميع الأنحاء، تحول أكبر بنك في أفغانستان إلى بؤرة احتيال. حمل المسافرون حقائب محملة بمليون دولار أو أكثر على الرحلات المغادرة من كابول، وارتفعت القصور المعروفة باسم “قصور الخشخاش” من بين الأنقاض إلى بيوت زعماء الأفيون. لقد أعيد انتخاب الرئيس حامد كرزاي بعد أن حشى اعوانه والمقربين منه الآلاف من صناديق الاقتراع، وقد اعترف لاحقاً بأن وكالة الاستخبارات المركزية قامت بتسليم أكياس نقدية إلى مكتبه لسنوات، واصفا إياه بأنه “لا شيء غير عادي”.
وذكرت الصحيفة وفقاً لمجموعة من المقابلات الحكومية السرية التي حصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست”، أنه بينما صعّد الرئيس باراك أوباما الحرب ووافق الكونغرس على مليارات الدولارات الإضافية كدعم، كان “في العلن” القائد العام والمشرعون يعدون بمكافحة الفساد ومحاسبة الأفغان المحتالين. في الواقع، تراجع المسؤولون الأمريكيون، وأشاحوا بنظرهم بعيداً وتركوا السرقة تترسخ أكثر من أي وقت مضى.
عواقب الحرب بالوكالة
أولئك الذين تم احتضانهم كصمام أمان في مواجهة الهمجية بحسب زعم الولايات المتحدة، وكانت تتدفق إليهم كافة أنواع الأسلحة، يتم نسيانهم بمجرد انتهاء الصراع، كما هو الحال في أفغانستان والعراق. ويتعين على المقاتلين السابقين بالوكالة، الفرار من البلاد أو مواجهة ثأر أولئك الذين قاموا بقتالهم، كما حدث لرجال قبائل الهمونغ في لاوس والفيتناميين الجنوبيين.
يتجاهل الرعاة السابقون، الذين كانوا يسرفون في المساعدات العسكرية النداءات اليائسة للحصول على مساعدات اقتصادية وإنسانية، حيث يعاني أولئك الذين نزحوا بسبب الحرب الجوع ويموتون بسبب نقص الرعاية الطبية. ولعل أفغانستان، للمرة الثانية، هي الصورة النموذجية لهذه القسوة الإمبراطورية.
بحسب المؤرخ والبرفسور الاقتصادي الأمريكي تشالمرز جونسون، تؤدي الحروب بالوكالة إلى عواقب “غير مقصود”، فقد أدى دعم وتدريب من أطلقوا عليهم مسمى
” المجاهدين” في أفغانستان الذين قاتلوا السوفييت، والذي تضمن تسليح مجموعات مثل تلك التي يقودها أسامة بن لادن، إلى ظهور “طالبان والقاعدة”. كما نشرت الحروب بالوكالة، الجماعات الارهابية الرجعية في كافة أنحاء العالم، وزادت الهجمات الإرهابية ضد الأهداف الغربية التي بلغت ذروتها في هجمات 11 أيلول وأذكت عقدين من الإخفاقات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق والصومال وليبيا واليمن.
يرى المراقبون أنه في حال انتصار روسيا في أوكرانيا، فلن تكون الولايات المتحدة قد عززت تحالفاً قوياً بين روسيا والصين فحسب، بل ضمنت العداء الدائم مع روسيا، والتي لن تنسى تدفق أسلحة بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا، واستخدام الاستخبارات الأمريكية لقتل الجنرالات الروس وإغراق البارجة الروسية ” موسكفا”، وتفجير أنابيب “نورد ستريم”، والعقوبات الأمريكية التي تزيد على 2500 عقوبة استهدفت كافة القطاعات في روسيا.
وبجسب تشارملز جونسون: “يمكن القول أن، ردة الفعل السلبية، هي ببساطة طريقة أخرى للقول إن أي دولة تحصد ما تزرع، لكن على الرغم من أن الناس عادة ما يعرفون ما زرعوه، إلا أن تجربتنا الوطنية من ردة الفعل السلبية، نادراً ما يتم تصورها بمثل هذه المصطلحات لأن الكثير مما زرعه مديرو الإمبراطورية الأمريكية ظل في طي الكتمان “.
يُظهر الواقع، أن أولئك المدعومين في الحروب بالوكالة بما في ذلك الأوكرانيين، غالباً ما تكون فرصهم ضئيلة للنصر، فالأسلحة المتطورة التي يتم إرسالها تكون عديمة الفائدة إلى حد كبير إذا لم يمضِ من يشغلونها شهوراً وسنوات في التدريب.
في السياق ذاته، تعرف الولايات المتحدة أن الوقت ينفد بالنسبة لأوكرانيا، كما تعلم أنه لن يتم إتقان استخدام الأسلحة المتطورة في الوقت المناسب لصد ما تزعم أنه هجوم روسي متواصل، حتى أن وزير الدفاع لويد أوستن حذر في كانون الثاني الماضي قائلاً أن لدى أوكرانيا فرصة من الآن وحتى الربيع، مضيفاً هذا ليس وقتاً طويلاً.
مع ذلك، فالنصر ليس هو الهدف، وإنما التدمير إلى أقسى حد ممكن، فحتى لو أُجبرت أوكرانيا بعد الهزيمة على التفاوض مع روسيا، والتنازل عن الأراضي مقابل السلام، فضلاً عن قبول وضعها كدولة محايدة، ستكون واشنطن قد “حققت” هدفها الأساسي المتمثل في إضعاف القدرة العسكرية الروسية.
أولئك الذين يشنون حروباً بالوكالة قد أعمتهم أوهام التمني، فقد شهد تسليح من تسميهم الولايات المتحدة بالمتمردين “المعتدلين” في سورية تدفق الأسلحة إلى أيدي العصابات الإرهابية.
في غالبية الأحيان، تتعرض البلد أو المجموعة التي تقاتل نيابة عن الدولة الراعية بعد انتهاء الحروب بالوكالة للخيانة. ففي عام 1972، قدمت إدارة نيكسون أسلحة وذخائر بملايين الدولارات للمتمردين في شمال العراق لإضعاف الحكومة العراقية، ومع ذلك لم ترغب الولايات المتحدة التي أرسلت الأسلحة لهؤلاء المتمردين في إقامة دولتهم الخاصة. ووقع العراق وإيران على اتفاقية الجزائر لعام 1975 التي قام البلدان بموجبها بتسوية الخلافات على طول حدودهما المشتركة، كما أنهى الاتفاق الدعم العسكري لهؤلاء المتمردين. وفي مثال آخر، تضمن تقارب الرئيس ريتشارد نيكسون مع الصين، إنهاء المساعدة السرية لمتمردي التبت.
الخيانة هي الفصل الختامي
من المؤكد أن تسليح أوكرانيا ليس عملاً تبشيرياً، ولا علاقة له بالحرية كما تدعي الولايات المتحدة، بل يتعلق الأمر برمته بإضعاف روسيا، ومن المؤكد أنه بعد إخراج روسيا من المعادلة لن يكون هناك دعم ملموس لأوكرانيا.
على الرغم من وجود بلدان وشعوب محتلة أخرى، بما في ذلك الفلسطينيين الذين يعانون من وحشية الاحتلال الإسرائيلي والانتهاكات المتكررة والخطيرة لحقوقهم منذ زمن بعيد، لكن حلف الناتو لا يرسل الأسلحة للفلسطينيين للقتال ضد المحتلين الإسرائيليين، ولا يعتبرهم مناضلين بطوليين من أجل الحرية، حيث لا يمتد حب الولايات المتحدة “للحرية” إلى الفلسطينيين أو الشعب اليمني الذي يتعرض منذ سنوات طويلة للقصف بالسلاح البريطاني والأمريكي، بل يمتد حب الولايات المتحدة للحرية فقط للأشخاص الذين يخدمون “مصلحتها الوطنية”.
نفيل القول، سيأتي وقت يصبح فيه الأوكرانيون، كغيرهم من الوقود البشرية التي استخدمتها الولايات المتحدة في حروبها بالوكالة، وسيختفي ذكرهم من الخطاب القومي الأمريكي والوعي الشعبي إلى الأبد، وسوف يحتضنون خيانتهم ومعاناتهم لأجيال، وستنتقل الإمبراطورية الأمريكية إلى استخدام الآخرين، ربما الشعب “البطولي” في تايوان، لتعزيز سعيها غير المجدي للهيمنة على العالم.
الصين هي الجائزة الكبرى لـ”الدكتور سترينغلوف” الأمريكي، سوف يكدسون المزيد من الجثث ويغازلون الحرب النووية للحد من القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين، إنها لعبة قديمة ويمكن التنبؤ بها حيث تترك في أعقابها الأمم في حالة خراب وملايين القتلى والمشردين، كما تغذي الغطرسة وخداع الذات لدى كبار السن في واشنطن الذين يرفضون قبول ظهور عالم متعدد الأقطاب، و ذا تُركت دون رادع، فإن “لعبة الأمم” هذه قد تؤدي بنا جميعاً إلى الموت.