مجلة البعث الأسبوعية

ماذا عن الرؤوس الكبيرة والمتنفذة لمافيات التهريب؟ بعد عامين على انطلاق حملة الجمارك.. هل تحقق شعار “سورية بلد خال من التهريب”!؟

“البعث الأسبوعية” ـ علي عبود

مضى عامان تقريباً على تنفيذ خريطة طريق متكاملة المهام والمسؤوليات لإعلان “سورية دولة خالية من التهريب” في زمن أقصاه نهاية عام 2019. وفعلاً، استنفرت الجهات المعنية، وعلى رأسها الجمارك، بتنفيذ “الخريطة”، فماذا كانت الحصيلة؟

نعم.. لقد نجحت الحملة بضبط أطنان من المهربات وتحصيل مليارات الليرات لخزينة الدولة، ولكن السؤال: هل يمكن الجزم بأن سورية، سواء في نهاية 2019 أم الآن، هي “دولة خالية من المهربين والمهربات”؟

سبق وسألنا مع بداية تنفيذ الخريطة المتكاملة لاجتثاث التهريب عن جدوى حملة الجمارك الوطنية إن لم تصل إلى الرؤوس الكبيرة والمتنفذة لمافيات التهريب. ترى: ما أسباب الصمت الرهيب حول النتائج الفعلية لحملات الجمارك الوطنية التي لا تزال مستمرة، بل وفعالة في ضبط صغار المهربين؟ وبسؤال أكثر دقة: هل اجتثت الجهات، المعنية بالمكافحة وتنفيذ خريطة الحكومة السابقة، مافيات التهريب في سورية.. أم ماذا؟

 

ماذا تضمنت خريطة الطريق؟

نعترف بأن الحكومة السابقة فاجأتنا، نهاية شباط 2019، بقرارها إطلاق حملة وطنية لاجتثاث التهريب لأنه بات يستنزف الاقتصاد الوطني، ويؤثر سلباً على التصنيع المحلي، ويُضعف الليرة السورية؛ ونقول “إجتثاث” لأن الحكومة بدت حينها مصممة لجعل سورية “دولة خالية من التهريب قبل نهاية عام 2019”!

وفعلاً، بلور فريق عمل حكومي برئاسة رئيس الحكومة السابق، مطلع شباط 2019، خريطة طريق متكاملة المهام والمسؤوليات لتنفيذ الهدف المتجسد باجتثاث المهربين والمهربات،

ولفت الفريق الحكومي السابق المشرف على تنفيذ خارطة الطريق إلى أن “ضبط التهريب هو الأساس في تحقيق سياسات ترشيد المستوردات، والحفاظ على القطع الأجنبي، وحماية الاقتصاد الوطني”.‏‏

ولتفعيل الحملة الوطنية، تم منح الجمارك حزمة معززات لأداء جهازها على المستوى المادي وعلى مستوى الصلاحيات والمهام الواسعة، إضافة إلى ترتيبات جديدة لبيئة العمل، شملت إلغاء منح الموافقات والاستثناءات الخاصة بنقل المشتقات النفطية بين المحافظات، وخاصة إلى القرى والبلدات المتاخمة للمناطق الساخنة، وإلغاء تجديد التراخيص للمعامل الواقعة في هذه المناطق، وإدخال منتجاتها التي يجري التلاعب بمنشئها، وإلصاق علامة المنشأ السوري بها تزويراً، وتشكيل لجان مركزية وقطاعية، من غرف الصناعة ووزارات الزراعة والصناعة وحماية المستهلك ومديرية الجمارك العامة، لضبط وتحديد ماهيّة السلع الداخلة فيما إذا كانت سورية المنشأ فعلاً، أم ذات منشأ مزيف.‏‏

كما تم إلغاء كافة البيانات الجمركية منتهية الصلاحية، والتي تم منحها قبل تاريخ 8 أيلول 2016، والتي يمكن استخدامها لإدخال مواد غير مسموح استيرادها، إلى جانب التوجيه بتدقيق البيانات الجمركية المرتبطة بموافقات معرض دمشق الدولي، والتي تم منحها خلال الدورتين الماضيتين؛ واستنتجنا حينها أن الحكومة السابقة لم تمنح الصلاحيات الكافية للجمارك فقط، بل وهي جادة أيضاً باجتثاث التهريب من سورية. ومع ذلك، وجهنا سؤالاً واحداً فقط: ما جدوى حملة الجمارك الوطنية إن لم تصل إلى الرؤوس الكبيرة والمتنفذة لمافيات التهريب؟

ترى هل وصلت الحملة، سواء في سنة الهدف (2019)، أم خلال سنة 2020، إلى أي رأس مافيا كبير أو متوسط على الأقل؟

 

حصيلة رقمية.. مخيبة!!

في نهاية عام 2019، لم نُفاجأ بالحصيلة المتحققة؛ وبمقياس عدد الضبوط والواردات المالية، فإن الجمارك حققت إنجازات كبيرة وغير مسبوقة، ولكن بمقياس تحقيق الهدف الرئيسي “سورية دولة خالية من التهريب” فالحصيلة مخيبة جداً للآمال، بل ومحبطة!

وحسب مديرية الجمارك العامة، فإن عدد القضايا لدى جهاز الضابطة الجمركية وصل إلى 5477 قضية، خلال الفترة من 1/ 1/ 2019 إلى 12/ 12/ 2019، تنوعت بين ألبسة ومواد عناية بالشعر والجسم، ومستحضرات تجميل وأجهزة كهربائية وموادغذائية مختلفة ورخام وغرانيت وحديد وأدوية.. وبلغت غرامات هذه القضايا 9 مليارات ليرة، في حين بلغت القضايا النوعية، المتابعة من قبل مديرية مكافحة التهريب، 245 قضية، غراماتها أكثر من 9.24 مليارات ليرة. والمهم إن مديرية الجمارك العامة أعلنت بوضوح: “لا يمكننا القول إن سورية باتت خالية من التهريب إلا اننا قطعنا شوطاً حتى 70% في هذا الصدد”.

ونشير هنا أنه ما من بلد خال من التهريب بنسب متفاوتة، لكن هناك فارقاً كبيراً بين تهريب عابر تضبطه الجهات المختصة، ولا يؤثر كثيراً على الاقتصاد والصناعة والعملة الوطنية، وبين تهريب تديره مافيات محترفة ومتنفذة تعرف متى تحني رأسها أمام “عاصفة” عابرة، ومتى تعيد نشاطها سراً وعلناً؛ ولو إن الحملة حققت أهدافها المعلنة لكان رئيس الحكومة السابق أول من تباهى بتحقيق إنجاز أخفقت بتحقيقه جميع الحكومات؛ وما يؤكد ذلك أنه وجه، في بداية الشهر الأخير من عام 2019، بتنفيذ خطة تحرك جديدة نصت على فرض “طوق جمركي من “العيار الثقيل جداً” على محيط المدن ومداخلها الرئيسية والفرعية وصولاً إلى سراديبها التي “كان المهربون يتسللون منها خلسة” لقطع الطريق باتجاه المحال والمستودعات والأقبية المظلمة، وأوضح حينها ان “أهم ما يميز التحرك الجديد لعمل الجمارك هو رفع سقف صلاحيات المديرية، واتخاذ كل ما شأنه ضرب وتجفيف ومصادرة كل المواد المهربة، أينما وجدت، ومع أي شخص كان، بعيداً عن كل الخطوط الحمراء، وذلك في خطوة متممة ولاحقة لحملة سورية خالية من التهريب”..

إنه اعتراف صريح وخطي بفشل الحملة من خلال تبني خطة جديدة “من العيار الثقيل”، علّها تحقق الهدف المعلن.. لكن الخطوط الحمراء استمرت وبقوة!

 

مآخذ على الحملة

لو كانت الحملة ركزت على المنافذ الحدودية الرسمية واللاشرعية لكانت حققت نتائج أقضل؛

بل لو أن الحملة ركزت، بالتوازي مع ضبط منافذ التهريب الحدودية، على الرؤوس الكبيرة لمافيات التهريب لكانت الحصيلة مذهلة، ولتحقق الهدف قبل نهاية عام 2019 “سورية دولة خالية من التهريب”؛ لكن ما حصل إن حملة الجمارك شتتت إمكاناتها وعناصرها في عدة اتجاهات، وطالت المكافحة الأسواق الداخلية والمحال الصغيرة، وتمت مصادرة البضائع، بما فيها تلك التي يملك أصحابها بيانات جمركية بها.. فلماذا؟

الكثير من الصناعيين رأى أن الحملة انحرفت عن هدفها، وبدا من خلال مداهمات الأسواق والمحال أن الهدف جمع الغرامات أكثر من ضبط المهربين الفعليين.. أي الكبار!

والسؤال الأساسي كان ولا يزال: كيف تصل المهربات من منافذ الحدود، سواء النظامية أم اللاشرعية، إلى الأسواق الداخلية؟

هذه المهربات – وهي بالأطنان – تقطع مئات الكيلومترات، وبالشاحنات، لتصل إلى الداخل دون ضبطها، فكيف تسللت أصلاً من منافذ الحدود؟ ومن ساعد بخروجها من المرافئ البحرية أو المنافذ البرية؟ والملفت غياب التنسيق بين “الجمارك” والجهات الأخرى المعنية بمراقبة الأسواق، ومصادرة المواد والسلع المجهولة المصدر، وبخاصة تلك التي ليست لها بيانات جمركية!

كان على الجمارك أن تترك مسؤولية مراقبة الأسواق والمحال والمولات لوزارات الداخلية والتجارة والإدارة المحلية، وتركز حملتها على منافذ الحدود، لكن يبدو أن الهم الأكبر لوزارة المالية كان جمع الغرامات – وهي بالمليارات – أكثر من القضاء على التهريب. كما لم يتم التنسيق مع الجهات المتضررة من التهريب، أي مع غرف الصناعة لأن المهربات تنافس المنتج الوطني، أو مع غرف التجارة لاستيراد بدائل المهربات نظامياً.. الملفت أن غرف التجارة والصناعة أجمعت على ضرورة ضبط المعابر الحدودية ومحاسبة المهربين الكبار، لا محاسبة الصغار و”المتعيشين ” بمصادرة بضائعهم، أي مورد رزقهم الوحيد. وتساءل رئيس غرفة الصناعة آنذاك: هل تم ضبط أو معاقبة اسم واحد من الأسماء الكبيرة؟ ولماذا لا يتم ضبط معبر سرمدا الذي يعد هو مصدر التهريب؟ والأهم من كل ذلك كيف تصل البضائع المهربة إلى السوق؟

نعم.. إن الصناعيين من دعاة إيقاف التهريب لأضراره على الصناعة الوطنية، والهدف من حملة مكافحة التهريب هو المعابر الحدودية، أي “المعالجة من النبع”، وضبط الأمور من هناك، لكن استهداف التاجر الصغير الذي يعتمد على محله الصغير كمصدر رزق وحيد لأسرته، لا يحل المشكلة، وبخاصة مع غض النظر عن المهربين الكبار الذين يدخلون البضائع المهربة إلى الأسواق، إضافة إلى بعض المخلصين الجمركيين الذين يتلاعبون بالمهربات؛ والملفت أكثر ان الجمارك خلال أشهر الحملة كانت تركز على حجم الغرامات، لاعلى اجتثاث التهريب من منافذ الحدود المعروفة من قبل الكثيرين، وعلى رأسهم الصناعيون!

بل إن البيان النهائي للجمارك، في نهاية 2019، لم يكن “ضبطنا منافذ الحدود وقبضنا على الرؤوس الكبيرة لمافيات التهريب.. البيان النهائي كان: سورية أصبحت خالية من التهريب بنسبة 70%”. فكيف تم حساب هذه النسبة؟ هل لدى الجمارك إحصائية دقيقة بحجم المهربات في سورية؟ وإذا كان الأمر كذلك، ماذا عن نسبة الـ 30%؟ وهل هي نسبة المهربين الكبار التي يصعب اجتثاثها؟ البعض يرى أن اجتثاث التهريب يعني تجفيف الغرامات، أي تجفيف المليارات التي تجبيها وزارة المالية سنوياً، دون الاكتراث بما يلحقه التهريب من أضرار تقدر بأضعاف مضاعفة عن غرامات الجمارك!

 

ما بدائل مكافحة التهريب؟

لو عدنا إلى العقود، وليس إلى السنوات الماضية، لاكتشفنا أن التهريب كان من أكثر الآفات التي تفتك بالاقتصاد الوطني، وكانت هناك أسواق علنية لبيع المهربات في ثمانينات القرن الماضي، بل إن قرى حدودية كانت بأكملها تزاول مهنة التهريب؛ ولم تستطع الحكومات المتعاقبة حل المشكلة إلا بإجراءات اقتصادية جذرية، أي بتوفير بدائل المهربات من خلال التصنيع المحلي عن طريق فتح باب الإستثمارات، وعن طريق الاستيراد.

ورأت الباحثة الاقتصادية د. نسرين زريق مع بداية حملة الجمارك، في 2019، إن الحكومة تريد سورية خالية من التهريب، وهذا مبدأ وطني لدعم الصناعات الوطنية، وهذه وجهة نظر صحيحة علمياً وعملياً، ولكن المشكلة ليست في المطلب وإنما في طريقة التطبيق وتوقيته والظروف المحيطة بتطبيقه.. أنّ تطبيقاً كهذا يحتاج بداية لدعم الصناعة المحلية، حيث نلاحظ أن هناك خللاً بالجودة أو بالأسعار، أو خللاً بالكميات المعروضة من المنتجات الوطنية مقارنة بالمنتجات المهربة، وأنه لكي تنجح حملة كهذه تستوجب لها مقومات نجاح أولها دعم الصناعة، وثانيها أن تتولى ذلك لجنة ليس لها علاقة بالجمارك، مبينة أنه لولا الفساد الجمركي لما دخلت البضائع المهربة أساساً، ولما تأزمت الأحوال الاقتصادية خلال الحرب وحتى الآن”!

وشددت الباحثة زريق على أن “الحملة كمبدأ جميلة، ولكن التنفيذ أساء للفكرة سواء من الطريقة أو من الظروف أو من المنفذين، واجتمعت العوامل فتحولت من حملة وطنية إلى حملة جباية مالية وتغريمات، حيث لم يكافح شيئاً وتمت مصادرة البضائع، ودفعت غرامات فقط، ولكن بالعودة بعد أيام إلى المتاجر ذاتها سنجد بضائع مهربة جديدة، حيث لا يوجد بدائل بميزة تنافسية سعرية وكذلك لا يوجد ضبط لأسعار البدائل”.

 

بالوقائع والأرقام

أما لماذا فشلت الحملة؟ فلأنه لم تسبقها وترافقها إجراءات اقتصادية لتوفير البدائل. كان يجب دعم الصناعة الوطنية بحزمة من الإجراءات والتسهيلات، ودعم القطاعي الزراعي بالأفعال وليس بالأقوال، وبتفعيل تصنيع بدائل المستوردات. وأكثر من ذلك كان يمكن دعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر لأنها قادرة، وبسرعة، على تصنيع منتجات بديلة ومنافسة للمهربات، لكن الحكومات السابقة أهملتها؛ ولولا مبادرات فردية، وبتمويل ذاتي، لما رأينا أي مشاريع صغيرة في سورية.. هذه المشاريع التي فاجأنا أصحابها وهم شبان من حلب بمنتجاتهم في معرضهم في دمشق.

لقد لخّص رئيس اتحاد غرف التجارة السورية حصيلة حملة مكافحة التهريب بالقول إن “ظاهرة التهريب أصبحت ملموسة في الأسواق على كافة المستويات ابتداء من البسطة مروراً بالمحلات وصولاً إلى المولات، وفيها أصناف تنافس المنتج المحلي.. وتحاول الجمارك ذرّ الرماد في العيون، وتشير إلى جهودها في مكافحة التهريب، لكنها لا تصطاد كبار المهرّبين، بل تبحث عن الفتات، وعن الذين لا يشكّلون سوى الحلقة النهائية في عمليّات البيع والشراء، أي تجّار المفرّق”!

وفعلاً، تبيّن الأرقام الصادرة عن “الجمارك” أن إيراداتها بلغت خلال العام الماضي 150 مليار ليرة، وهي أرقام لا تعبّر إلا عن جزء يسير من حجم الاقتصاد السوري في مرحلة الحرب، كما تعبّر في الوقت ذاته عن حالة الفوضى التي تشهدها الأسواق.

والأهم تكشف هذه الأرقام إن الهدف كان الغرامات أكثر من القضاء على التهريب!

والأهم من كل ذلك إن رئيس الحكومة السابق وعدد من الوزراء السابقين تحدّثوا عن معرفتهم – وبالاسم – لكبار المهرّبين، والشبكات التي يديرونها، فلماذا لم يأمروا بضبطهم واعتقالهم بدلاً من رمي الكرة في ملعب الصغار؟

هل تتذكرون – مثلاً – تصريح وزير المالية السابق: “هناك من يحمي المهرّبين، والأسماء معروفة بالنسبة لنا”. وبما أن الوزير السابق جزم أن التهريب يستنزف 80% من موارد خزينة الدولة، فلماذا لم تقترب حملة المكافحة من كبار المهربين المحميين؟

 

الاعتراف الأخير

كانت جلسة مجلس الوزراء، المنعقدة يوم 26 نيسان 2020، بمثابة الاعتراف الأخير للحكومة السابقة بأن حملة الجمارك أخفقت بجعل سورية خالية من التهريب في موعد أقصاه نهاية عام 2019؛ ولقد طلب المجلس، أنذاك، من وزاراتي المالية والداخلية، وكل الجهات المعنية، التشدد بمحاربة التهريب بكل أشكاله، وخاصة تهريب المواد الغذائية، وإنزال أقصى العقوبات بكل من يقوم بتهريب المواد إلى خارج الحدوود!

والملفت إن وزير المالية السابق أعلن عن اتخاذ مجموعة إجراءات مشددة لمنع التهريب، الذي ازداد مؤخراً!

أنه اعتراف صريح وحازم بأن التهريب زاد، ولم ينحفض. والملفت أن الوزير شجع المواطنين على الإبلاغ عن صغار المهربين، ووعدهم بحصة من الغرامات!

بالمختصر المفيد: الحكومات السابقة لم تكافح التهريب بإجراءات وقرارات اقتصادية، ووزارة المالية على مدى العقود الماضية كانت مهتمة بغرامات التهريب، وليس بالقضاء على التهريب!