“فرّق تسد”.. قانون الإمبراطورية الأبدي
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
“فرّق تسد هو القانون الأبدي للإمبراطورية، وقبل كل شيء، لا تدع اللاعبين الكبار يجتمعون معاً، واشغلهم بخلافات دائمة فيما بينهم”.
قبل نصف قرن، استجاب الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي كان عالقاً في حرب فيتنام التي لا يمكن الفوز بها، لنصيحة هنري كيسنجر بإقامة علاقات مع بكين لتعميق الانقسام بين الاتحاد السوفيتي والصين.
لكن اليوم أصبح واضحاً أن الأولويات تغيرت، فقد قال جورج فريدمان، السياسي الأمريكي الجمهوري والمحلل الجيوستراتيجي الخاص الأكثر نفوذاً في أمريكا، أن أولوية الإمبراطورية تتمثل في إلحاق الهزيمة لروسيا في أوكرانيا، مضيفاً أن مصلحة الولايات المتحدة تكمن في قطع العلاقات بين ألمانيا وروسيا، وأن مصادر الخوف بالنسبة لواشنطن تتمثل في الحقيقة بالتكنولوجيا الألمانية ورأس المال الألماني، إضافة إلى الموارد الطبيعية الروسية والقوى العاملة الروسية باعتبارها التركيبة الوحيدة التي أخافت الولايات المتحدة لعدة قرون، حيث يشكل البلدان القوتان الوحيدتان التي يمكن أن تهدد الولايات المتحدة.
في شيكاغو في 13 آذار 2015، وفي معرض حديثه إلى مجموعة النخبة، أشار فريدمان إلى أن قائد الجيش الأمريكي في أوروبا الجنرال بن هودغز، قد زار للتو أوكرانيا، وقلد الجنود الأوكرانيين بالأوسمة، ووعدهم بإرسال مدربين، مضيفاً إنه كان يفعل ذلك دون موافقة حلف الناتو، لأن عضوية الناتو تتطلب موافقة بنسبة 100 في المائة، لذلك كانت الولايات المتحدة تمضي قدماً بمفردها.
قال فريدمان إن ما تخشاه الولايات المتحدة منذ فترة طويلة هو مزيج من رأس المال الألماني والتكنولوجيا مع الموارد والعمالة الروسية، وقد كان خط أنابيب “نورد ستريم” يقود في هذا الاتجاه، المتمثل بالترتيبات التجارية والأمنية المتبادلة التي لم تعد تتطلب الدولار أو الناتو.
وأشار فريدمان إلى أن وضع أوكرانيا يمثل تهديداً وجودياً بالنسبة لروسيا، لذلك فهم ماضون حتى النهاية، لكن بالنسبة للولايات المتحدة فهي وسيلة لتحقيق غاية “فصل روسيا عن ألمانيا”. وخلص فريدمان إلى أن رد فعل القادة الألمان كان، حتى الآن، كردة فعل المديرين المخلصين لبلد تحت الاحتلال الأمريكي، وهو كذلك.
التهديدات الماثلة أمام حركة السلام الألمانية
منذ بدء العملية العسكرية الروسية في 24 شباط 2022، تم شيطنة وقمع وحتى تجريم كل من دعم أو تعاطف مع روسيا، لدرجة أن معظم الاحتجاجات الألمانية تجنبت في البداية اتخاذ أي موقف بشأن الحرب، وركزت على الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن العقوبات.
وفي 25 كانون الثاني من هذا العام، رضخ المستشار أولاف شولتز للضغط الأمريكي لإرسال دبابات “ليوبارد 2” الألمانية إلى أوكرانيا، وفي نفس الوقت، قالت وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بربوك، من “حزب الخضر” خلال اجتماع دولي:
” إننا نخوض حرباً ضد روسيا”.
لكن ماجرى أنه اندلعت مظاهرات عفوية في المدن الكبيرة والصغيرة في جميع أنحاء ألمانيا تحت شعارات مثل ” أيها الأمريكيون عودوا إلى بلادكم”، “الخضر إلى الجبهة!”، “إصنعوا السلام بدون أسلحة ألمانية”. وأدان المتحدثون إرسال شحنات الدبابات لأنها “تجاوزت الخط الأحمر”، متهمين الولايات المتحدة بإجبار ألمانيا على الدخول في حرب مع روسيا، كما دعوا إلى استقالة زعيمة حزب الخضر بربوك.
وقد بلغت موجة المظاهرات ذروتها بعد شهر واحد من بداية العملية العسكرية الروسية، عندما احتشد ما يصل إلى 50000 شخص إلى “التظاهرات من أجل السلام في برلين”.
كما وقع أكثر من نصف مليون شخص على “بيان السلام” الذي دعا المستشار شولتز إلى وقف تصعيد شحنات الأسلحة، والعمل من أجل وقف إطلاق النار والمفاوضات. ودعا المنظمون إلى إعادة بناء “حركة سلام” ألمانية ضخمة، على غرار حركة نزع الأسلحة النووية في الثمانينيات.
لكن بناء “حركة سلام” في ألمانيا يواجه اليوم الكثير من العقبات، ففي ظل الاحتلال العسكري الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تغلغل النفوذ الأمريكي في المؤسسات ووسائل الإعلام الألمانية، وكذلك النظام القانوني. وللمفارقة، يبدو أن الولايات المتحدة شددت قبضتها عبر الأطلسي منذ إعادة توحيد ألمانيا.
مراقبة “الأطراف المتطرفة”
تراقب ألمانيا “التطرف” السياسي من خلال المخابرات الألمانية، والمكتب الفيدرالي لحماية الدستور، على الرغم من أن ألمانيا بالمعنى الدقيق للكلمة ليس لديها دستور، إلا أن لديها محكمة دستورية قوية مصممة خصيصاً لمنع أي عودة إلى ممارسات “السلطة النازية”.
بدلاً من الدستور، سمح قانون أساسي انتقالي أقرته قوى الاحتلال الغربية، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في عام 1949 للجمهورية الفيدرالية بتولي حكومة ألمانيا الغربية، وبعد إعادة توحيد ألمانيا، تم تمديد القانون الأساسي ليشمل كل ألمانيا. وبروح “مناهضة الاستبداد” الليبرالية، يراقب المكتب الاتحادي لحماية الدستور -“المخابرات الألمانية”- كلاً من “التطرف اليساري”، و”التطرف اليميني” باعتبارهما تهديدان محتملان، حيث يشير “التطرف اليميني” إلى الميول النازية، بينما يميل “التطرف اليساري” نحو الشيوعية على النمط السوفييتي، بحسب زعمه.
في الحقيقة، تؤسس التضاريس السياسية للقرن العشرين ضمنياً “المركز” باعتباره الحل الوسط حيث يمكن للمواطنين أن يشعروا بالراحة، وتعتبر أن أكثر النزعات العسكرية راديكالية ليست “متطرفة”.
بالرغم من أن المادة 5 من القانون الأساسي للأفراد تمنحهم الحق في التعبير عن آرائهم، إلا أن هناك قيوداً عديدة في القانون الجنائي كمعاقبة “التحريض على الكراهية”، والعنصرية، ومعاداة السامية، والسجن بسبب إنكار الهولوكوست”. كما تحظر الدعاية أو رموز المنظمات “غير الدستورية”، والاستخفاف بالدولة ورموزها، والتجديف ضد الأديان الرسمية، وخاصة عدم احترام “كرامة الإنسان”.
بالطبع، تطبق جميع هذه القوانين بحسب طريقة تفسيرها، فقد تم الآن تمديد الحظر المفروض على “مكافحة الجرائم وإقرارها، والذي كان الغرض منه في الأصل الإدانات بجرائم مدنية عنيفة ليشمل المجال الجيوسياسي، أي تجريم “الموافقة أو الدعم” لما تسميه ” حرب عدوانية”.
في هذا الصدد، أدانت محكمة في برلين خطاب الناشط المناهض للحرب هاينريش بوكر في برلين في 22 حزيران الماضي، والذي دعا إلى إقامة علاقات جيدة مع روسيا في ذكرى الغزو النازي للاتحاد السوفييتي عام 1941، وقد أعتبرت المحكمة أي جهد لتوضيح الموقف الروسي من خلال الإشارة إلى توسع الناتو، وهجمات نظام كييف على دونباس منذ عام 2014 على أنه “موافقة أو دعم”.
غني عن القول إن الألمان لم يتعرضوا أبداً للتهديد بالمقاضاة الجنائية لموافقتهم على الغزو الأمريكي لفيتنام أو العراق أو أفغانستان، ناهيك عن القصف العدواني وغير القانوني لصربيا عام 1999. وعلى العكس من ذلك، فقد تم الاحتفاء به على نطاق واسع كعمل إنساني جدير بالثناء، بالرغم من أن حملة القصف تلك قتلت المدنيين ودمرت البنية التحتية، وأجبرت صربيا على السماح للناتو باحتلال إقليم كوسوفو، حيث بنى الأمريكيون لأنفسهم قاعدة عسكرية ضخمة.
الشرطة الألمانية تفرض المطابقة المركزية
أثناء تجمع المتظاهرين في “الاحتجاجات من أجل السلام” في برلين، ظهر أحد المنظمين على منصة المتحدثين ليقرأ قائمة طويلة من الأمور التي حظرتها الشرطة، حيث تضمنت القائمة العديد من الرموز أو العلامات المتعلقة بالاتحاد السوفييتي أو روسيا أو بيلاروسيا أو دونباس.
وقبل يوم واحد، سلمت شرطة برلين للمنظمين شرحاً مفصلاً يبرر هذه المحظورات بحسب زعمها، وأشارت من خلاله أن السلامة العامة في خطر داهم، مضيفة إنه وفقاً لمعلوماتها، سيشمل المشاركون بشكل أساسي على أشخاص ذوي توجه أساسي يساري قديم من المؤيدين لروسيا، والمعارضين لشحنات الأسلحة التي ترسلها الحكومة الألمانية إلى أوكرانيا، والجغرافيا السياسية للغرب، والولايات المتحدة الأمريكية، والناتو بشكل عام.
نهج حذر للمتظاهرين
وفقاً لتحذير شرطة برلين، يعاقب على الموافقة على الحرب العدوانية على القانون الدولي، التي “يشنها” الاتحاد الروسي حالياً ضد أوكرانيا بحسب زعمهم، وتعتبر الشرطة أن التعبير عن هذه الموافقة لا يكون فقط بالكلمات، ولكن من خلال عدد من العلامات والرموز. فعلى سبيل المثال، فإن عرض الحرف “Z” والذي يشير إلى التعبير الروسي للنصر سيشكل جريمة جنائية.
في النهاية لم توفر “الاحتجاجات من أجل السلام” أي فرص لتدخل الشرطة أو الاعتقال، مثل “بيان السلام”، فقد تجنبت الخطب الألمانية إلى حد كبير الإشارة إلى استفزازات الولايات المتحدة والناتو التي أدت إلى الحرب. ويعتبر البروفيسور جيفري ساكس، الذي تم بث خطابه الافتتاحي باللغة الإنكليزية للجمهور على شاشة، الوحيد الذي تجرأ على التحدث عن خلفية العملية العسكرية الروسية والتي كانت نتيجة لانقلاب كييف عام 2014، وتسليح الولايات المتحدة لأوكرانيا، ومعارضة الولايات المتحدة لمفاوضات السلام، ومسؤولية الولايات المتحدة عن تفجير خطوط أنابيب “نورد ستريم” وغيرها من الحقائق.
تجاهل المتحدثون الآخرون إلى حد كبير أسباب الحرب، وركزوا بدلاً من ذلك على المخاوف بشأن ما قد يؤدي إليه: التصعيد المستمر لشحنات الأسلحة، وحتى الحرب النووية.، حيث تم تجميع الحشد الضخم في مواجهة البرد والثلج الخفيف، وصورت الأعلام في الغالب حمائم سلام وشعارات تدعو إلى الدبلوماسية، ولمفاوضات سلام بدلاً من شحنات الأسلحة لتجنب الحرب النووية.
على الرغم من كل هذا اللطف، تعرضت حركة الاحتجاجات ومنظموها لهجوم عنيف من قبل السياسيين والإعلاميين، حيث تم طرد ساهرا واجنكنخت من حزبها اليساري المتضاءل “دي لينكه” من قبل القادة الذين يميلون إلى إتباع حزب الخضر العدواني على أمل أن يتم تضمينهم في حكومات الائتلاف اليساري.
وللإشارة كانت واجنكنخت بارزة في الحركة المناهضة للصواريخ في الثمانينيات، بصفتها عضواً بارزا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الثمانينيات، كما أنها تستعد لتأسيس حزب خاص بها، الأمر الذي يمكن أن يملأ فجوة كبيرة في المشهد السياسي الألماني الحالي، أي حزب مناهض للحرب ينتمي بقوة إلى اليسار، لذلك يجب أن يُنظر إليها على أنها التهديد السياسي الرئيسي للتحالف الحاكم.
لقد تعرضت واجنكنخت لهجوم شديد بسبب أن خطاباتها المناهضة للحرب قد لقيت الإشادة في البرلمان من قبل أعضاء حزب البديل من أجل ألمانيا،و وصفها الصحفي ماركوس ديكر بالعدو الأكثر نفوذاً “للديمقراطية” في ألمانيا، مضيفاً أن واجنكنخت هي تجسيد مشخص لما كان ضباط المخابرات يحذرون منه لسنوات. بعبارة أخرى، يجب أن تخضع للمراقبة من قبل المخابرات الألمانية باعتبارها راعية للجبهة المخيفة.
في السنوات القليلة الماضية، مع تزايد العداء تجاه روسيا في الغرب، تعززت عقيدة “أنتيفا” الإقصائية داخل اليسار، وبالنتيجة لم يعد اليسار يهتم بكسب المحافظين أكثر من اهتمامه باستبعادهم.
حرية الرأي في ظل التهديد
في 15 آذار الجاري، أصدرت مجموعة من الفنانين والمثقفين اليساريين عريضة تطالب بالدفاع عن حرية التعبير، و نصت العريضة على أن ألمانيا في أزمة عميقة، والمعلومات المضللة والتلاعب بالسكان يحددان إلى حد كبير الثقافة الإعلامية الحالية، وأن أي شخص لا يشارك الرأي الرسمي المقرر بشأن حرب أوكرانيا، وينتقدها ويعلن ذلك، يتعرض للتشهير والتهديد والعقوبات أو النبذ، ما يعني أنه في مثل هذا الجو، لم تعد المناقشات مفتوحة، وتبادل الآراء المختلفة، وعرضها في وسائل الإعلام والعلم والفن والثقافة وغيرها من المجالات ممكنة بعد الآن. لذلك بات تشكيل الرأي الحر من خلال موازنة الحجج المختلفة أمراً مستحيلاً، فالتحيز والجهل، فضلاً عن التخويف والرقابة والنفاق هي العواقب، وهو تماماً ما يتعارض مع كرامة الإنسان والحرية الشخصية.
وفي الشهر الماضي، تبنت وزيرة الداخلية الاتحادية نانسي فيزر قانوناً جديداً يجعل من الممكن طرد “أعداء الدستور” من الخدمة المدنية من خلال إجراء إداري بسيط، حيث قالت فيزر: “لن نسمح للمتطرفين بتخريب دولتنا الديمقراطية الدستورية من الداخل”. ولكن من وجهة نظر جمعية موظفي الخدمة المدنية الألمانية، فإن مشروع القانون يرسل رسالة عدم ثقة إلى كل من الموظفين والمواطنين، رغم أنه من المفترض أن جو الحرب يوحد الأمة، لكن هذه الرسالة تكشف عن انقسامات عميقة وترسخها.