أوكرانيا ثقبٌ أسود يستنزف مقدّرات الغرب الجماعي
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
لماذا أصرّ الغرب طوال الفترة الماضية على إطالة أمد النزاع في أوكرانيا بكل الوسائل الممكنة، إن كان هذا الغرب نفسه هو من سيعود إلى الوراء لطلب الحل الدبلوماسي للأزمة؟ هل كانت الدبلوماسية غائبة بالفعل، أم أن الدول الغربية كانت تمنّي نفسها بهزيمة روسيا على الأرض استراتيجياً، وعندما عجزت عن ذلك راحت تبحث عن أساليب للخروج بماء وجهها من هذه الحرب؟.
لا يختلف اثنان على أن الغرب الجماعي ممثلاً بحلف شمال الأطلسي “ناتو” سعى منذ ما قبل العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إلى محاصرة روسيا وإضعافها عبر نقل بنيته العسكرية إلى حدودها الغربية مستفيداً من النظام الموالي له الذي جلبه إلى رأس السلطة في كييف، حيث تم استخدامه وتسليحه ليكون رأس حربة في الحرب على روسيا وإضعافها وتفتيتها وهزيمتها استراتيجياً، وهذا الأمر لا يخفيه الغرب عند حديثه عن المطلوب من روسيا.
والآن وبعد مرور أكثر من عام على انطلاق العملية الروسية الخاصة، أدرك الغرب الجماعي أنه لا يستطيع تحقيق نصر خاطف كما كان يعتقد، ولا يستطيع أيضاً استنزاف روسيا عبر إطالة أمد الحرب والاستمرار بإمداد نظام كييف بالأسلحة، حيث تبيّن طبعاً أن موسكو قادرة على تغطية احتياجاتها من الأسلحة في هذه الحرب حتى لو اشتركت الدول الأطلسية مجتمعة فيها، وذلك في الوقت الذي اعترف فيه الغرب على مضضٍ بأن الجيش الأوكراني يستغرق يومياً عدداً هائلاً من القذائف لا تستطيع دول الحلف مجتمعة تغطيته، وهذا ما كشف عنه الجنرال سيرغي كريفونوس، النائب السابق لقائد قوات العمليات الخاصة في الجيش الأوكراني، حيث أكد أن دول الناتو غير قادرة على إنتاج كمية الذخيرة اللازمة للقوات الأوكرانية.
وقال كريفونوس في مقابلة مع قناة “دياسبورا UA”: إن دول الناتو غير قادرة على إنتاج كمية الذخيرة اللازمة للقوات المسلحة الأوكرانية، مضيفاً: إن القوات الأوكرانية تستخدم آلاف القذائف يومياً.
وفي وقت سابق قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مقابلة صحفية: إن القوات الأوكرانية تستخدم حوالي 5 آلاف قذيفة يومياً، بينما تنتج الولايات المتحدة 15 ألف قذيفة في الشهر.
كذلك اعترف الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ بأن إمداد أوكرانيا بالذخيرة “غير مستدام”، لأن “استهلاكها أعلى بكثير” من معدّل الإنتاج في الدول الأعضاء في الحلف، كما ذكر أن مخزون الناتو من القذائف التي تم تخصيصها لتزويد كييف قد استُنفد.
ومن هنا فإن الغرب بدأ، على الأقل، على وقع هزائمه المتكرّرة على الأرض في حربه بالوكالة على روسيا، يشعر بخيبة أمل كبيرة من قدرته على تحقيق خرق في المشهد يؤدّي إلى تحقيق أيّ هدف من الأهداف التي توخّاها من استعداء موسكو، حيث لا يبدو واضحاً ما إذا كانت كييف ستتمكّن من تحقيق الحلم الغربي، بل على العكس تحوّلت أوكرانيا إلى ثقب اسود يستنزف مقدّرات الغرب الجماعي الذي وجد نفسه مضطرّاً لدعم كييف إلى ما لا نهاية حتى لا يضطرّ إلى الإقرار بالهزيمة.
فإذا كان لابدّ من الركون إلى السلام أو دفع نظام كييف إلى العودة إلى المفاوضات مع موسكو، فإن الغرب طبعاً سيلجأ إلى الاستعانة بدولة أخرى من دول المعسكر الشرقي السابق التي لم تُظهر عداء مباشراً لروسيا خلال الأزمة الحالية، وبالتالي تمّت الاستعانة بجمهورية التشيك، حيث أعلنت وزارة دفاعها، أنه لا يهمّ مَن الجهة التي ستنظّم محادثات السلام حول أوكرانيا، سواء كان الغرب أم أحد حلفاء روسيا، بل المهم هو إنهاء هذا الصراع والأعمال العدائية بأسرع وقت.
وأوضحت وزيرة الدفاع يانا تشيرنوخوفا، في مقابلة مع التلفزيون التشيكي قائلة: “النقطة الأهم في المفاوضات هي العثور على طرف يحظى باحترام كافٍ من روسيا، ويجب على العالم بأسره أن يفعل كل ما بوسعه لضمان إنهاء الصراع الأوكراني في أسرع وقت ممكن، إذا كان هنالك شخص قادر على ذلك فسأحييه، ولن أهتم إن كانت الصين هذا الطرف”.
وهذا التوجّه طبعاً يتعارض مع الرفض الأمريكي المعلن للوساطة الصينية في هذا الملف، حيث بدا أن الرفض الأمريكي كان مجرّد محاولة للظهور بمظهر القوي في المفاوضات الجارية وعدم التسليم بالانتصار الروسي الذي جاءت المبادرة الصينية لتسويقه حسب زعم واشنطن.
ولكن الحقيقة التي تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون التستر عليها هي أن الغرب اقتنع بأنه عاجز عن مجاراة موسكو في الحرب الدائرة حالياً سواء بشكلها التقليدي أم بشكلها النووي إذا ما قُدّر لهذا الصراع أن ينتقل إلى هذه المرحلة، فكل مبادرة غربية لتزويد أوكرانيا بسلاح يفترض الغرب أنه خارق للتوازن في المعركة تُواجه بردّ روسي ربّما كان أقسى من الفعل الغربي، والآن بات الغرب يحسب حساباً كبيراً لإمكانية اندلاع حرب نووية كان يهدّد موسكو بها من خلال إصراره على نشر ترسانته من الصواريخ الاستراتيجية بالقرب من حدود روسيا، وذلك طبعاً بعد قيام روسيا بنشر منظومة اسكندر الصاروخية على أراضي حليفتها بيلاروسيا، وهي قادرة طبعاً على حمل رؤوس نووية، الأمر الذي أكد جدّية موسكو في الردّ على أيّ استفزاز يعرّض أمنها القومي للخطر، وبالتالي اضطرّ الغرب الجماعي إلى العودة للتعقّل بدل ممارسة عنترياته التي لا تؤدّي إلا إلى مزيد من التصعيد غير المحمود العواقب.
فالجيش الروسي يتحدّث يومياً عن تحديث ترسانته العسكرية في المعركة، وتزويد قواته بأسلحة جديدة، حيث تسلّمت القوات المحمولة جوّاً أنظمة قاذفات اللهب الثقيلة المحدثة TOS-1A، وهي “تثير الذعر في أعدائنا”، على حد قول مدير جهاز الحماية من الإشعاعات والمواد الكيميائية والبيولوجية التابعة للقوات المحمولة جواً، العقيد أليكسي غونشاروف.
ولكن الدليل الواضح على أن الغرب بالفعل أصبح مضطرّاً للبحث عن الحل في أوكرانيا تحت وطأة أزماته الاقتصادية وأوضاعه الداخلية الصعبة، والمظاهرات والاحتجاجات الشعبية الرافضة للاستمرار في دعم أوكرانيا على حساب دافع الضرائب الغربي، ما أعرب عنه مستشار الرئيس الأوكراني الأسبق، أوليغ سوسكين، من أن الأمور مع كييف تسير نحو أسوأ السيناريوهات بسبب الضغط الخارجي المتزايد عليها من أجل الشروع في مفاوضات مع روسيا لحل النزاع، حيث أكد أن “هناك عدداً متزايداً من القادة في العالم ممن يريدون وقف إطلاق النار على خط المواجهة بين أوكرانيا وروسيا”.
وكانت صحيفة “واشنطن بوست” قد ذكرت في كانون الأول الماضي، أن الغرب كان يفكر في أسوأ السيناريوهات للنزاع في أوكرانيا وذلك بسبب الأضرار التي لحقت بمنظومة الطاقة في البلاد.
ولكن الحقيقة التي ينبغي على الجميع إدراكها أن الغرب لا يسعى الآن إلى إيقاف الحرب لأنه تأكد من هزيمة كييف فيها فقط، وذلك أن النظام الأوكراني مجرّد أداة لمحاربة روسيا، بل لأن الغرب ذاته بدأ يشعر بهزيمة وجودية كاملة أمام روسيا، بمعنى أن الغرب الجماعي كاملاً بات معرّضاً للفناء، وهذا بالضبط ما يحرّكه الآن نحو السلام، ولذلك دعوته إلى السلام “ربّما تكون دعوة صادقة”.