دراساتصحيفة البعث

المؤتمر التأسيسي للحزب.. انطلاقة ألبست المنطقة الثوب العربي

د. معن منيف سليمان 

كان المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي الركيزة الأولى لأوّل حزب جماهيري عقائدي قلب وجه المنطقة العربية ومفاهيمها، فبدّل صورتها وألبسها الثوب العربي الشعبي، وذلك بمن كان بين صفوفه من أهل الفكر والعمال والفلاحين، حيث امتدّ على طول الوطن العربي بشكل متواصل، ما أثار هلع المستعمرين وأتباعهم، فأخذوا يقاومون الحزب وأعضاءه بكلّ وسائلهم.

نشأ حزب “البعث العربي” في مرحلة ما بين الحربين العالميّتين، وكان استمراراً لحركة القومية العربية في نضالها ضدّ الاحتلال العثماني ومن بعده ضدّ الاستعمار الغربي، وكان تلبية لحاجات الأمّة العربية في تلك المرحلة التاريخية في تكوين حركة سياسية شعبية منظّمة تناضل في سبيل تحقيق أهدافها.

وفي الواقع ترجع البدايات الأولى لظهور حزب البعث إلى عام 1940، ولكنّه لم يبرز على الساحة السياسية في سورية إلا بدءاً من عام 1943، ذلك العام الذي يعدّ نقطة تحوّل لا في التاريخ السياسي للقطر العربي السوري، وحسب، وإنما في حياة حزب البعث العربي الاشتراكي أيضاً، لأن فيه ظهرت “حركة البعث العربي” أوّل مرّة لا كحزب سياسي فقط، وإنما كممثلة لأيديولوجية شعاراتها الأساسية هي “الوحدة والحرية والاشتراكية”، هذه الشعارات التي لا تزال تحتلّ حتّى اليوم أهداف كفاح جماهير شعبنا العربي كلّه. وفي العام نفسه أعادت سلطات الاحتلال الفرنسي العمل بالدستور السوري الذي وضعته جمعية تأسيسية عام 1928م، وتمّ إجراء انتخابات نيابية لإقامة برلمان جديد، وتمّ كذلك انتخاب رئيس للجمهورية.

استطاع حزب البعث الذي التفّت حوله فئات واعية للمسألة الوطنية والقومية، وشملت المعلمين والطلاب والمحامين والأطباء والموظفين من ذوي الأحوال الفقيرة، استطاع في مرحلة التأسيس أن يشغل دوراً حاسماً ومهماً في تعبئة الجماهير في سورية لتحقيق الاستقلال ومواجهة الاحتلال الفرنسي، ولاسيما فيما بين عامي 1943 – 1945م، التي انتهت بإخفاق العدوان الفرنسي في 29 أيار 1945م، وبتحقيق الجلاء العسكري عن سورية في 17 نيسان 1946م، هذا الجلاء والتحرير هما اللذان أتاحا لحزب البعث أن يتأسس في نيسان عام 1947م، فكان المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي انطلاقاً للحزب الذي أسهم بشكل فعّال في قيادة نضال الشعب العربي، وأقر مفاهيم سياسية واقتصادية واجتماعية، ووضع إستراتيجية جديدة تصون الأمة العربية وتحمي أبناءها، ما أثار قلق الاستعمار وأتباعه، فشرعوا في عرقلة مسيرته النضالية ومقاومة أهدافه بشتى الطرق والوسائل، ولكنهم أخفقوا أمام صمود مناضلي الحزب الذين غيّروا الصورة في المنطقة العربية وأضفوا عليها الطابع العربي الشعبي.

ففي مقهى الرشيد الصيفي، في شارع 29 أيار حالياً، في مدينة دمشق، قلب العروبة النابض، انعقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي ما بين 4 – 6 نيسان 1947، وأنهى أعماله مع بداية اليوم السابع من نيسان، معلناً عن مقرراته التي صاغت أهداف الحزب الأساسية في الوحدة والحرية والاشتراكية، وحدّدت الدستور والأسس التنظيمية والنظام الداخلي.

لقد وضع البعث، وبعد تشخيص دقيق للواقع العربي، حلولاً مبتكرة لمشاكل الأمة العربية باتجاه الارتقاء بالمجتمع العربي إلى حيث يجب أن يكون، بالاستناد إلى ما يمتلكه من تاريخ عريق وحضارة راقية ومزدهرة، شملت أصقاع شاسعة من العالم، ووضع المبادئ التي حددت موقف الحزب من مسألة الحرية، وأقر المؤتمر حرية الفرد كشرط أساس لحرية الأمة العربية بأكملها، مراعياً الانسجام والتوفيق بين حرية الفرد الخاصة وبين المصلحة القومية العليا.

وانطلق المؤتمر من مبدأ أنه لا يمكن بناء أيّة حرية نضالية في وطننا العربي، وبناء مجتمع عربي سليم إلا إذا اقترن هذا النظام بالتفكير الاشتراكي، أي يجب أن يقترن بنظام اقتصادي يسمح للحرية أن تكون حقيقية، والاشتراكية هي الأرض الصلبة والثابتة التي يمكن أن تُبنى عليها حرية الإنسان، وبدون ذلك لا يمكن أن تتحقق الحرية، ولهذا أقرّ المؤتمر مبدأ الاشتراكية التي تعترف من جهة بحق الفرد في التملّك، وتحدّ من جهة أخرى من تضخّم حجم الملكية.

وبهذه المعادلة يبقى هناك للفرد حافز للإنتاج والإبداع، وبالوقت نفسه تبقى الدولة حارساً أميناً لحرية الفرد وللمصلحة القومية على السواء، فلا تسمح بانقسام المجتمع العربي إلى طبقتين، طبقة الرأسماليين المستغلّين، وطبقة الكادحين المحتاجين، ما يؤدي إلى فقدان الأمة تماسكها وانسجامها، وانتفاء وحدتها وعناصر قوتها، وهنا يبرز دور الحزب كموجه وقائد لمسيرة الجماهير العربية في تحقيق أهدافها نحو الوحدة والتحرر والتقدم.

لقد عاش أعضاء المؤتمر ساعات غنية، وأعطوا فيها عطاءً مثالياً، ووضعوا الأسس الصحيحة آنذاك لبعث الأمة العربية. وقد اطمأنت السلطات الوطنية حيث وجدت المؤتمر يتكلّم بالوحدة والاشتراكية في ظروف ليس في الوطن العربي قطر واحد نال استقلاله حقاً، ولاسيما أن الرجعية العربية هي الحاكمة فيه، وهي القوّة الضاربة في هذا الوطن الكبير. ولهذا لم تشعر السلطات بأهمّية هذا المؤتمر إلا حين خرج البعثيون بعد انتهائه بمظاهرة أطلقوا فيها شعاراتهم الجديدة، وحين ترجمت قرارات المؤتمر إلى مواقف نضالية على مستوى القطر العربي السوري كلّه، وقد أحبطت هذه المواقف الكثير من مؤامرات الحكم وممارساته وفضحت ارتباطاته، وسجّلت للشعب انتصاراته الجديدة.

كان المؤتمر التأسيسي انطلاقة لحزب جديد شغل دوراً في صياغة الفكر القومي واستنهاض الشعور القومي والوطني في مواجهة القوى الاستعمارية، ولفت أنظار العرب إلى الأخطار المحدقة بأمتهم، فكانت ثورة آذار، 1963، بقيادته هي الحدث الأبرز الذي حققه في المراحل اللاحقة وتمكّن من تفجير ثورة آذار في سورية وتولى قيادة الدولة والمجتمع فحوّل بنجاح ملحوظ المبادئ والأهداف والشعارات التي كان يرفعها وينادي بها طويلاً إلى برامج وخطط عمل جسّدت تطلعات الجماهير العربية وطموحاتها، وسمحت للحزب أن يستجيب للتطورات المحلية والعربية والدولية التي أحاطت بنضاله مروراً بالحركة التصحيحية عام 1970م، التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد ووصولاً إلى مسيرة التطوير والتحديث التي يقودها السيد الرئيس بشار الأسد الذي استطاع أن يحافظ على المكتسبات التي حققها الحزب عبر مسيرته النضالية الطويلة، ويطوّر من فكره وأساليب عمله.