دراساتصحيفة البعث

في ذكرى التأسيس: لا بعث بدون انجاز ولا بعثي بدون مهام

د. خلف المفتاح

في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، لابد للبعثيين والتيار القومي العربي الذي جسده البعث، فكراً ونهجاً، من إحياء مناسبة كهذه بنظرة نقدية للمسار الذي امتد لعدّة عقود واجه خلالها تحديات غير مسبوقة، على صعيد الحزب ذاته، وعلى صعيد مسيرته في قيادة المجتمع والدولة في سورية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن البعث هو من الأحزاب المعدودة ذات النهج الاشتراكي التي استمرت في السلطة وحافظت على هويتها الفكرية ومسارها وانجازاتها دون أن تعصف بها رياح التغيير التي اجتاحت المنظومة الاشتراكية قبل ثلاثة عقود.

والسبب، أو لنقل الأسباب التي تفسر ذلك هي ما توفر له من قيادات حافظت على ثوابته السياسية وروحه الثورية وعلاقته الوطيدة مع الجماهير، إضافةً إلى انفتاحه على القوى السياسية وتطور نظريته الفكرية ومشروعه الداخلي عبر إضافات مهمة تجسدت فيما طرحه القائد الراحل حافظ الأسد بعد قيام الحركة التصحيحية من تعددية سياسية واقتصادية وتجديد للحوض السياسي ومقاربته لفكرتي الوحدة والاشتراكية مقاربة عملية في خطابه بالمؤتمر القومي الثاني عشر، عام 1975، والتي اخرجت نظرية الحزب من التكلس والتشرنق حول صيغة جامدة تمسكت بها قيادات الحزب منذ عام 1963 حتى ذلك التاريخ، ما أفقدها المرونة المطلوبة في التعامل مع واقع متغير يحتاج إلى براغماتية في التعامل مع حيثياته وموجباته.

وإلى جانب خطاب التصحيح الذي أخرج الحزب من جائرة التقوقع حول الذات إلى الانفتاح على الواقع، كانت النقلة النوعية في إطار مسيرة الحزب، نحو تجديد وتطوير نظريته النضالية، خطاب التطوير والتحديث الذي تبناه الرفيق بشار الأسد، وطرحه في المؤتمر القطري التاسع للحزب عام 2000، وجاء عليه ايضاً في خطاب القسم أمام مجلس الشعب في العام نفسه، وهو الخطاب الذي حظي بتأييد وترحيب واسع من البعثيين أنفسهم إضافة للقوى السياسية الصاعدة والمجتمع المدني السوري الذي قرأ فيه انفتاحا سياسيا وتعميقا للمسار الديمقراطي وبداية لبرة اقتصادية تتيح مشاركة أوسع في الحياة السياسية والاقتصادية لسورية متجددة بفعل ذاتي يقوده البعث عبر عنوان عريض وواعد تحت مسمى التطوير والتحديث.

وكان لذلك النهج آثار إيجابية على كافة مستويات الحياة في سورية سواء الاقتصادية أو السياسية أو المعيشية أو المسار الديمقراطي وسقف الحريات الآخذ في التصاعد والتوسع، حيث اتيحت مساحات أوسع في مجال الإعلام وتشكيل الأحزاب والصالونات الأدبية التي بدأت تعج بها المدن والحواضر السورية، ما أكسب الرئيس بشار الأسد شرعية إضافية هي شرعية الإنجاز المستند إلى مشروع وطني واعد، وليس إلى مشروع حزبي ضيق.

لقد شهدت سورية خلال السنوات العشرة الأولى من قيادة الرئيس بشار الأسد تطورا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وديمقراطيا واسعاً، وهذا ما تؤكده مؤشرات رقمية حيث الناتج المحلي جاوز الـ 60 مليار دولار عام 2010، بفعل ذلك النهج التطويري الذي تفاعلت معه القوى السياسية، وفي مقدمتها حزب البعث وقوى المجتمع المدني، تفاعلا جيداً، يستثنى من ذلك بعض المتضررين من هذا النهج سواء كانوا في السلطة أو بعض القوى التي لا تريد للبعث أن يقود عملية إصلاح شامل بفعل ذاتي دون تخليه عن ثوابته إضافة إلى من قرأ وهو مصاب بعمى الألوان ما جرى قراءة خاطئة، فبدأ بالتصويب على مسيرة الحزب وإنجازاته خلال عقود مضت، اعتقاداً منه أن ما حصل هو حالة فك ارتباط مع ماضي الحزب وإنجازاته وتاريخه ومشروعه الوطني والقومي.

وعلى الرغم مما واجهه مسار التطوير والتحديث من معوقات داخلية وخارجية، إلا أنه استمر بوتيرة عالية وترافق مع انفتاح على دول العالم أخذاً في الاعتبار أن سورية المتجددة بفعل تلك السياسة لم تتخل عن ثوابتها وهويتها العروبية والمقاومة، الأمر الذي لم يرق لبعض القوى الخارجية، فبدأت باتباع سياسة العصا والجزرة بما يعكس أميتها في فهم سياسة الرئيس الشاب الذي لم يتخل أو يساوم على الإرث النضالي لمن سبق، وهو في أدبيات السوريين وعقيدتهم ووجدانهم الجمعي.. من هنا بدأت المؤامرات تحاك مرة أخرى على سورية، سواء في لبنان عبر اغتيال رفيق الحريري، أو عبر بوابات الضغط الأمريكية الإسرائيلية، ولكن دونما جدوى، فجاء ما سمي “الربيع العربي” لتكون الجائزة الكبرى لمن اشتغل وراهن على سقوط “النظام” في دمشق وفق فهمهم وقاموسهم السياسي.

ولكن دمشق التي تعرفهم جيدا أسقطت كل حساباتهم ومشاريعهم المخادعة والمضللة، من الفوضى الخلاقة إلى المشروع الإخواني التركي وتوابعهما الانفصالية، وحمت الأمن القومي العربي من زلزال مدمر يعترف به الجميع اليوم ما دفعهم لمراجعة مواقفهم من دمشق وتصحيح العلاقة معها وهي التي أصبحت مكونا فاعلا في منظومة دولية صاعدة ترسم معالم نظام دولي جديد.

والسؤال الآن: ما هو المطلوب على الصعيد الداخلي، وعلى صعيد الحزب ذاته؟ والجواب على ذلك أن المطلوب هو الكثير، سواء على صعيد القضاء على الإرهاب المسلح أو الإرهاب الفكري. وهنا يبرز دور البعث بوصفه حزباً في السلطة في مشروع توعوي شامل نواته منتسبيه ومؤسساته جنباً إلى جنب مع القوى الأخرى في البلاد، إضافة إلى تعريف دوره الاجتماعي ومهام منتسبيه، فلا بعثي بدون مهمة، ولا بعث بدون إنجاز يلمسه الوطن والمواطن.

ونذكر البعثيين هنا أن ثمة مهام دائمة مؤقتة لمنتسبيه وفق نظامه الداخلي، ومن المهام المؤقته وجود حالة احتلال أو تحد خارجي ما يستدعي انخراط البعثيين وجماهير الحزب في المواجهة الشعبية والمسلحة بمواجهة ذلك، وهذه من المهام الأساسية التي تفرض نفسها على قيادته المركزية ومؤسساته ومنظماته الشعبية، ومن ثم المساهمة الحقيقية في إعادة الإعمار بكل أشكاله، المادي والفكري والتوعوي.

ولعل الظرف الحالي، ومع حالة الاستقرار النسبي، يستدعي العودة إلى تفعيل مضامين خطاب التطوير والتحديث التي تعطلت أو توقفت بفعل الحرب الإرهابية التي شنت على سورية واستبسلت فيها قواتنا المسلحة وأبناء شعبنا، فثمة عناوين مهمة تحتاج إلى إعادة تفعيل، منها التحديات التي أشار إليها الرئيس الأسد، الرفيق الأمين العام، في خطاباته في المؤتمرين القطريين التاسع والعاشر، ونذكر منها تحدي العلاقة مع جيل الشباب وتحدي الإعلام وتحدي التنمية وتحدي الفساد ودور المرأة وتعريف الشخصية القيادية والحوار الوطني والفقر والبطالة وتحصين الذات، وكل ذلك يحتاج إلى حوار عميق ونخبوي وبنك عقول وطني ينعقد ويلتئم ليضيء على كل هذه العناوين وغيرها، وصولا لوضع آليات عملية وأدوات فاعلة لتنفيذها وفق خريطة طريق تعيد الروح لخطاب التطوير والتحديث الذي ما زال صالحاً من وجهة نظرنا، وصولا لسورية المتجددة التي يأملها كل وطني مخلص.