“وهم المعرفة”.. استخفاف بالمرجعيات العلمية والمهنية يعيق مرحلة التعافي!
محقٌ عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينغ عندما قال إن “أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل وإنما وهم المعرفة”، ويعني ذلك الشخص الذي يتوهم أنه يعرف كل شيء عن كل شيء، أي يبالغ في الثقة بمعرفته وقدراته. ولعل الوقائع اليومية وتفاصيل الحياة على مستوى الأداء الفردي والجماعي، كمؤسسات وإدارات، تكشف أنماط هؤلاء المصابين بهذا الوهم.
شأن محلي
في إسقاط هذه المقولة على واقعنا المحلي، نجد هناك صوراً واضحة ومؤلمة بذات الوقت، فعندما نقيّم الأداء في بعض المؤسسات نجد أن الثقة المفرطة لبعض الإدارات بالقدرة على معرفة كل الأمور وتسييرها كان لها مفعول عكسي على مبدأ “فاقد الشيء لا يعطيه”، فكم من مؤسسات ناجحة فشلت، بل أفلست بسبب إداراتها المصابة بمرض “وهم المعرفة” بمعنى أنها تدعي المعرفة والخبرة والدراية لكنها في الحقيقة لا تملكها!.
آفة العصر!
يرى الدكتور خليل عجمي، رئيس الجامعة الافتراضية السورية، أن “وهم المعرفة هو آفة العصر في كل المجتمعات، لكن أبعاده السلبية تصبح مضخمة جداً في بلدٍ كسورية خارجٍ من حربٍ كارثية، ويعاني من حصارٍ خانقٍ لأن الوهم يجعلنا نفقد القدرة على استثمار إمكاناتنا الصحيحة على النحو الصحيح!”.
ويوضح أن “هذا الوهم وما يتسبب به من استخفافٍ بالمرجعيات العلمية والمهنية، في أي موضوع، يمنع سورية من التعافي، ويجعلها تخسر فرصاً لا تُقدر بثمن، ويدخلها في أزماتٍ لا تنتهي رغم حجم الإمكانات الهائل الذي تملكه بشرياً واقتصادياً!”.
ويرى الدكتور عجمي أن “الأخطر هو الوهم الذي ينتج عن أنصاف المتعلمين، والمشكلة أن هذا النمط يخلط بين أن يكون له رأي بمشكلة، وهذا قد يكون حقاً له، وبين أن يعتبر نفسه قادراً على حلها، وهنا تكمن الكارثة”.
ومن الأمثلة التي أشار لها الدكتور عجمي هو الخلط لدى البعض بين أن يعطي رأيه بأزمة عامة تمسه (ذات طابع قانوني أو اقتصادي أو تقني أو غيرها)، وبين أن يتصدى لحلها ضارباً عرض الحائط بأي مرجعيات ضرورية من أصحاب الاختصاص والخبرة المهنية التي تقدم له النصح والرأي السديد في حال استأنس برأيها.
هذا الأمر بالذات – بحسب الدكتور عجمي – يتسبب اليوم بفشل النسبة الأكبر من المشاريع التنموية والأعمال الأخرى على المستوى الوطني، وتكون شماعة الحصار ونقص الإمكانات جاهزة لتحميلها مسؤولية أي فشل!
فاشلون في التطبيق!
يشير الدكتور سامر مصطفى، عميد المعهد العالي للتنمية الإدارية بجامعة دمشق، إلى وجود مغالاة أو إفراط عند البعض لجهة تقدير فهمه للتعامل مع الأشياء، ومعرفته بها، والتصرف بشكل صحيح حيالها. وبيّن أن عدم امتلاك المعرفة الحقيقية على أرض الواقع وعدم امتلاك المعرفة الأكاديمية والربط بينهما يعتبر إحدى المشكلات التي نعاني منها. وبرأيه فإن الكثير من الأكاديميين، ومنهم مدراء في مواقع عمل حساسة، لا يعرفون، بل يفشلون في تطبيق المعرفة الأكاديمية على أرض الواقع بطريقة إبداعية وابتكاريه تحقق الأهداف المرجوة، وأهمها تحسين الأداء في المؤسسة.
ويؤكد الدكتور مصطفى أن هذا النمط من القيادات لا يساعد أبداً في حل مشكلاتنا، بل يعقدها ويقف حجر عثرة أمام الإصلاح الإداري الذي ننشده.
شرنقة الحفظ البصم!
المعلم محمد حمدان، إجازة في الأدب العربي، يشير هو الآخر لوجود جهل عند عدد كبير من حملة الشهادات الجامعية، ويحمّل المسؤولية للمناهج الجامعية التي لم تخرج بعد من شرنقة الحفظ البصم لمفردات المنهاج دون فهم ما فيه، لذلك من الطبيعي أن تصاب عقول هؤلاء الخريجين بوهم المعرفة الذي ينتج الجهل حسب قوله.
ويضيف: المشكلة أن الخطر لا يتوقف عند هذا الحد، أي التأثير السلبي على الشخص بمفرده، بل يمتد إلى مكان العمل، وهذا ما يجعل الأشخاص عرضة لارتكاب الأخطاء التي قد تكون كارثية، خاصة عندما يكون أصحابها في موقع المسؤولية.
قرارات خاطئة!
وهناك من يرى أن مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، والفضائيات التلفزيونية، ساهمت إلى حد كبير في تسطيح العقول، فنتيجة الضخ الكبير للمعلومات غير الموثقة، وسهولة الحصول عليها بكبسة زر، اعتقد الناس أنهم باتوا عارفين بكل شيء. ولكن عندما يوضعون على المحك يكتشفون أنهم وقعوا ضحية معلومات تفتقر للدقة والمصداقية، والمؤسف أن هذا الوهم قد يدفعهم لاتخاذ قرارات خاطئة يعتقدون أنها صحيحة، وهكذا يضرون بمن حولهم داخل مكان العمل وحتى خارجه.
يوسف المحمود يرى أن وهم المعرفة قريبٌ من وهم اكتساب المهارات والتمكن منها. ويروي هذا المحامي قصصاً عن بعض المحامين الجدد بالمهنة فدائماً – بحسب قوله – يبدو عليهم الحماس والطموح الزائد، ورغم أن هذا من حقهم لكن البعض منهم قد يخفق ويورط موكليه بعدم قدرته على حسم القضايا نتيجة قلة المعرفة والحجج عنده، وهو بذلك يكون قد وقع ضحية الإطلاع على العلوم وليس التمكن منها بالمعرفة والخبرة، وهذا بلا شك ينطبق على الآخرين من أطباء ومهندسين وقياديين في مختلف المجالات!
هذه الحالة السلبية تحتم على من يريد الخروج من هذه المشكلة بذل الجهد العقلي في المكان المناسب لاكتساب المعرفة الحقيقية التي تمكنه من الدراية التامة بالموضوع.
وعليه يمكن القول أن المشكلة ليست في نقص المعرفة، وإنما بالوهم. فالإنسان مهما ارتفع شأنه سيبقى بحاجة للتعلم واكتساب المهارات والخبرات حتى يزيد من فهمه للحياة‘، وكما يقال: “الجهل ليس الداء، وإنما الإصرار عليه هو المرض”.
إدارات ثقيلة!
بالمختصر، إن مبعث طرح هذا الموضوع – “وهم المعرفة” – هو محاولة لفت الانتباه لوجود بعض القيادات الإدارية الجاهلة التي تدعي الكثير وتفعل القليل، وهذا ما يعرقل تنفيذ المشاريع والخطط ويؤجلها دون أسباب مقنعة، بسبب غياب الفكر الإداري وضعف تقنية المعلومات الإدارية التي تساعد، على وجه الخصوص، في التنسيق والتحكم والتحليل في بيئة العمل وبالنتيجة ضمان جودة المنتج.
من هنا تأتي أهمية التأكيد على ضرورة حسن اختيار الكوادر من ذوي الكفاءات والخبرات ذات المعرفة الحقيقية الواسعة والمدركة والواعية لكل تفاصيل العمل، وبعيداً عن أي تأثيرات أخرى، أي أن يحصل الشخص على الموقع أو المنصب بمعرفته العلمية لا بوهمها، فقد تعبت بعض مؤسساتنا من ثقل الإدارات المتواضعة جداً، بل المتعثرة في أدائها الوظيفي الممل!.
غسان فطوم