الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أهل حمص يخصصون عيداً للحلاوة

حمص – سمر محفوض

تنفرد حمص بانشغالاتها اليومية البسيطة بالبحث عن الجمال والفرح وصناعة طقسها الخاص فلسفياً واجتماعياً, فمن نهرها العاصي الذي يجري من الجنوب إلى الشمال مخالفاً الأنهار التي تمر بسورية إلى ظرافة وطرفة الأهالي وصولاً إلى الأعياد المحلية، مثل “خميس الحلاوة” التراثي الذي تمتاز به المدينة التي لم يستطع الخراب أو الهجمات الإرهابية التي استهدفتها النيل من روحها التواقة للحياة أو الحد من احتفالات المدينة الخاصة وخلق حالة من الفرح ضمن كل الظروف, بما فيها متوالية الموت والحياة، ففي حمص التي أضافت للموت حلاوة، وأفردت له عيداً يسمى “خميس الحلاوة” لتحتفي أرصفة الأسواق القديمة وواجهات المحلات بمهرجان من الألوان الزاهية مكونها الأساسي حلاوة “الخبزية” سيدة الحلاوة الحمصية الأولى ملونة باللونين الزهري والأبيض التي اختص بها هذا العيد، تعرض بأشكالها المخروطية الكبيرة، يليها حلاوة “السمسمية” المصنوعة من السمسم والناطف، والراحة بنوعيها سادة ومحشوة بالمكسرات وبلاط جهنم بلونيه الأصفر والأحمر.

“خميس الحلاوة”، أحد طقوس الاحتفال السنوي المهم الذي تتفرد به حمص عن باقي المحافظات السورية، وموعده متغير بحسب تغير موعد عيد الفصح لدى الطوائف المسيحية التي تتبع التقويم الشرقي، حيث تبدأ المدينة احتفالها بزيارة قبور الموتى وتوزيع الحلاوة على الفقراء والزوار في إشارة لفعل الحياة التي تستمر رغم مرارة الفقد، ولأنها كذلك، لا بد من احتفاء وعيد وحلاوة العيد, حيث يقبل الناس على التزود بأصناف الحلوى التي تخص هذا اليوم، كما يتم تبادل الحلويات بين الجيران وتقديمها للأهل والضيوف.

ويؤكد الباحث التاريخي الأستاذ نهاد سمعان إن تاريخ هذا العيد يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو واحد من سبع “خميسات أو خمسانات” كما يسميها الحمصيون وتحتفل بها المدينة، تبدأ بخميس التائه والضائع المرتبط بأول خميس من صيام الفصح ويسمى الخميس الثاني بخميس”الشعنونة” نسبة لتقلبات الحالة النفسية للصائم أيضاً في الأسبوع الثاني من الصوم وهو أقل سوءاً من خميس المجنونة أي الخميس الثالث في سلسلة الخمسانات، يلي ذلك الخميس الرابع خميس “القطاط” في إشارة لموسم تزاوج الهررة.

أما خامس الخميسات فهو خميس “النبات” أو خميس “البيض” ومن طقوسه والعادات الممارسة فيه اختبار الحظ للعام المقبل حيث يخرج السكان للتنزه في سفح القلعة ويتناولون الخضار من الخس والنباتات الخضراء الطازجة والفواكه، ويلي ذلك طقس رمي حصوة صغيرة في بئر قلعة حمص، وكان يسميه الناس جب البخت فعند رمي الحصاة فيه إذا سمع لها صوت عند ارتطامه بالقاع يقال “لرامي نبت حظك وتفاءل بالخير.. وإن لم يسمع لها صدى يقلب له خاب فألك”.

ويشير الباحث سمعان أن هذا العادات في هذا الخميس مرتبطة أيضاً بعادات سبت اليعازار الذي يليه في جمع البيض فيجول الأولاد على البيوت يحملون السلال وعصي ويطالبون أصحاب البيت عبر الأغنيات والأهازيج بإعطائهم البيض الملون، وكانوا يحيون الذين يكرمونهم ويكثرون العطاء ويذمون الذين لا يقدمون لهم شيئاً بأهازيج وأغاني مازالت متداولة في أرياف حمص حتى الآن.

ويطلق على السادس اسم خميس الحلاوة، وأيضاً خميس الأموات, وهو العيد الذي ينال فيه الأطفال والفقراء النصيب الأكبر من الفرح والسرور والاهتمام، والحلاوة الخبزية من أكثر الحلاوات شيوعاً في هذا العيد والمسموح أكلها لدى الصائمين المسيحيين إذ ليس بها أي سمن أو دهن حيواني.

والخميس الأخير وهو خميس المشايخ هو يتزامن حكماً مع خميس الجسد قبل يوم الأحد عيد الفصح لدى الطوائف الشرقية.. ويشير سمعان أنه بحسب بعض الدراسات يتم الاحتفال بخميس المشايخ أيضاً في مدينة القدس بفلسطين وبلدة برزة، بريف دمشق بينما باقي الخميسات فهي من حصة حمص فقط.

وأشار الباحث سمعان: إنَّ بداية احتفال حمص بهذه الخميسات كان في نهاية الفترة العثمانية أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعزا سمعان ذلك لروح التآخي والمحبة بين أهل حمص والرغبة في مشاركتهم بعضهم بطقوس صيام المسيحيين الممتدة سبعة أسابيع بدأ من اثنين الراهب.. فحمص في تلك الفترة كما ورد في قيود الإحصاء الرسمي لعام 1889 كان عدد سكانها 25635 نسمة فقط ثلثهم مسيحيون وكانوا يعيشون جميعاً داخل سور المدينة التي ما زالت معالمه واضحة حتى الآن وكانت تغلق أبوابه السبعة عند الغروب وتفتح عند الفجر..

وفي تلك الفترة كانت حمص أحد الاقضية التابعة لحماة، فحمص لم تصبح مركزا للواء إلا في العام 1920 بعد خروج العثمانيين،

كما وأضاف سمعان أن من أهم أسباب استمرار هذه الطقوس وتفرد حمص بهذه الخميسات هو تداخل النسيج الاجتماعي بين الأحياء، والاندماج الجغرافي الذي خلق جواً من الألفة بين الطوائف ضمن المدينة وساهم على وجود احتفالات عامة لجميع مكونات المجتمع.

وبيَّن سمعان أن الاحتفال بعيد خميس الحلاوة ما زال مستمراً إلى اليوم بالرغم من أنه فقد بعضاً من بهجته نتيجة التطور التقني بصناعة الحلاوة الخاصة به وتوقعات بكافة الأوقات عبر تعليبها وتغليفها وطرحها بالأسواق، مما سرق شيئاً من بريق ودهشة الاحتفال، وأكد الباحث التاريخي نهاد سمعان بأن موعد خميس الحلاوة ليس ثابت فهو يأتي ما قبل خميس الآلام والأسبوع الأخير من نهاية صوم الطوائف المسيحية الشرقية لو يتغير تاريخه سنوياً تبعاً لذلك، وأنه أثناء الاحتفالات بتلك الأخمسة, بما فيها خميس المشايخ كانت الأهالي تخرج للنزهة في غوطة المدينة على ضفاف العاصي, حيث تجلس النساء على عشب الربيع وظلال الأشجار, بينما يقيم الشباب ألعابهم المميزة كلعبة “قبّة حمام الزيني” حيث يشكل عدد من الشباب دائرة وقد وضع كل منهم ذراعيه الممدودتين على كتفي الآخر, ليصعد عدد آخر على أكتافهم بالتشكيلة نفسها ويسيرون وهم ينشدون أغنية “حمام الزيني أومي تكّحلي يا عيني وادللي يا عيني على شباب الزيني” بالإضافة لبعض الأناشيد الأخرى، وقد تعاد هذه اللعبة مع ألعاب تخص ذلك الزمان كلعبة “أم الأشبار” و”الزودة” و”عالزنكو خلف” وكأنما الحاضر يكرر أصداء الماضي بإصرار أبناء المدينة على خلق الأمل.