رأيصحيفة البعث

“الاستقلال” وقدر سورية الدائم

أحمد حسن 

عام 2012، وفي ذروة الحرب على سورية، اختارت فرنسا يوم السابع عشر من نيسان لاجتماع لجنة العقوبات في ما يسمى “أصدقاء سورية”. وبالطبع لم يكن هذا الخيار جهلاً بالتاريخ بقدر ما كان محاولة متجدّدة، وفاجرة، لتطويعه وإعادة كتابته والسيطرة عليه لاستباحة الذاكرة الوطنية الاستقلالية، واستبدالها بذكرى أخرى ورمز مختلف يستعيد تلك الجملة المفتاح: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”!!

بيد أن ذلك، وكما في المرة الأولى، لم يُفد فرنسا كثيراً، فبعد فترة قصيرة بمسار التاريخ، وإن كانت حافلة إنسانياً بالكثير من الدماء والدموع، أعاد الصمود السوري الكبير “سورنة” هذا التاريخ مرة جديدة بأيدي رجال أعادوا بدورهم اجتراح معجزة أسلافهم الذين خرجوا شهداء من بيوتهم الفقيرة، لكن المسوّرة بالكرامة، ليمنعوا المحتلّ من دخول بلادهم إلّا على دمائهم، لأنهم كانوا يعرفون جيداً أن من يدخل على الدماء لن يُتاح له إقامة دائمة، وهذا وأمثاله ما أنتج السابع عشر من نيسان عام 1946.

لكن، ولأن الرهان على إخضاع دمشق كان كبيراً، ودائماً، فإن محاولات العودة، وإن بلبوس مختلف، لم تتوقف يوماً ما، فشهدنا منذ مطلع هذا القرن محاولات عدّة كانت نُذرها قد بدأت بالظهور مع محاولة كولن باول استعادة شروط غورو الشهيرة، لكن الرد السوري المعتاد فاجأهم، فصعدوا جميعاً – عرباً وعجماً وتقريباً دون استثناء – عام 2011 مركبة “الربيع” المزعوم، ليمسكوا بأعنة أحصنتها، بل.. ويسيروا بها نحو حرب إرهابية مدمّرة في محاولة جديدة لـ “الاركاع والاستتباع”.

لكن السوريين، وفي صمود وصبر مدهشين، عادوا لإنتاج معجزتهم من جديد، مقدمين القافلة تلو الأخرى من الشهداء، لأنهم يعرفون أن الاستقلال لم يكن بتاريخه نتاج لحظة واحدة، أو حصيلة فعل مجموعة محدّدة، وإنما هو تتويج لفعل جماعي يصبح بدوره نقطة ارتكاز لأيام تأتي. وها هم اليوم يمتحون من ثمار ما قدموه خلال المرحلة الماضية فاتحين أذرعهم وقلوبهم، كما اعتادوا دائماً، لتوبة التائب وعودة الضّال واستفاقة النائم المغيّب لأنهم – وتلك سمتهم التاريخية – لا يريدون سوى الحياة لهم وللجميع.

والحال فإن احتفالنا السنوي بذكرى الجلاء يبدو مميزاً هذه المرة بنكهة جلاء ثانٍ صاغه أبناء “العظمة” مرة جديدة، وهو ما يرتّب علينا، جميعاً، كلّ في موقعه، الإمساك بهذه اللحظة، والبناء عليها حفاظاً على إرثنا الاستقلالي، مما لن يلبث أن يواجهنا مرة جديدة ولو بأشكال وصور مختلفة، الأمر الذي يرتّب علينا مرة جديدة استعادة الوطن بكل ما يعنيه من وعي ومواطنة كاملة الحقوق والواجبات.

قصارى القول، عام 1920 احتجّ الجنرال الفرنسي غورو بتأخر الموافقة على شروطه لمدة نصف ساعة ليدخل دمشق غازياً، لكن يوسف العظمة ورجاله لم يحتاجوا لأكثر من دقائق لاتخاذ قرارهم بالمواجهة، ولو باللحم الحي، وكان ذلك إرث قديم قدم التاريخ حمله العظمة ورجاله في جيناتهم، و”يرضعه” السوريون، في كل جيل ومع كل مطلع شمس، مع حليب الأمهات، فهم يعرفون جيداً أن ذلك هو طريق جلجلتهم لكنه أيضاً طريق فصحهم الوحيد.