دراساتصحيفة البعث

الجلاء.. نموذج في المقاومة ورفض الاحتلال والوصاية الأجنبية

د. معن منيف سليمان

يعدّ جلاء القوت الفرنسية الغازية عن قطرنا العربي السوري يوم السابع عشر من نيسان عام 1946، أنموذجا في المقاومة ورفض الاحتلال والوصاية الأجنبية. ففي هذا اليوم غادر آخر جندي أجنبي أراضي سورية، فكانت أول بلد عربي يُحرِّر أرضه وينال استقلاله السياسي دون قيدٍ أو شرط، وذلك بعد مرحلة طويلة ومريرة من الكفاح والنضال خاضها شعبنا العربي السوري بكل فئاته ضد المستعمر، حيث تحوّلت أرض الوطن إلى شعلة ملتهبة أحرقت جيش الاحتلال وأجبرت المستعمر على اتخاذ قرار الرحيل والجلاء، فارتفعت رايات النصر عالياً، ورفرف العلم السوري خفاقاً فوق كل مدينة وقرية تأكيداً على إن النصر دائماً وأبداً حليف الشعوب المناضلة، وإن المعتدي مهما بلغ من الشراسة والوحشية، ومهما امتلك من القوة والجبروت لابدّ أن يأتي يوم يغادر فيه أرضنا إلى غير رجعة وهو يجر أذيال الخيبة والخذلان.

كان القائد البطل يوسف العظمة، وزير الدفاع، أوّل من زرع بذرة التضحية والفداء ضدّ جحافل المستعمر المتفوق عدداً وعتاداً، وأصرّ على المقاومة بأي ثمن، يحدوه إلى ذلك حب الوطن وعشق الحرية، فأعلن وهو يخوض معركة غير متكافئة مع جيش الاحتلال في ميسلون 24 ـ 25 تموز عام  1920:” لن ننسحب ولو متنا عن آخرنا ومرّوا على أجسادنا فنحن لا نحب أن نراهم يدوسون تراب الوطن، وإن كنّا نعرف أن قواتنا أقل من جيشهم بكثير، ولكن إيماناً بأنفسنا أقوى”. ولاشك أن ذلك رسّخ عند أجيال المقاومة معادلة مهمة في الصمود والدفاع عن الوطن، وهي قوة الإيمان بالنفس مقابل قوة التفوق العددي والتقني للعدو.

وانطلاقاً من هذا المبدأ والإيمان المطلق به، رفض الشعب العربي في سورية أن تطأ جيوش أجنبية غازية أرض بلاده، وتستغل خيراتها وتنفذ فيها برنامجاً يستهدف تجزئتها إلى دويلات طائفية، ولهذا عقد العزم على تحرير أرضه، واتخذ للأمر عدته مقتنعاً أن الحرية تؤخذ بالقوة والكفاح، وطالما أن المستعمر استلب هذه الحرية بالقوة والعدوان فإنه لن يقدمها مجاناً كهدية أو يعيدها بالحوار والمفاوضات، بل المقاومة المسلحة إلى جانب النضال السياسي هي الطريق الأجدى إلى نيل الحرية والتحرير. ولتحقيق هذه الغاية الجليلة كان لابدّ من الوحدة الوطنية التي تجسدت في أبهى صورها في الصراع مع المحتل، حيث نجح شعبنا العربي في سورية أن يوحّد صفوفه ويرصّ بنيانه، فخاض معركة الجلاء على امتداد أرض الوطن من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، فاندلعت الثورات الشعبية في كل مكان: في جبل العرب، وجبل الزاوية، وجبال اللاذقية، وفي وادي العاصي، والغوطة، وحوران، ودير الزور، فبرز قادة ومناضلون عظام أمثال الشيخ صالح العلي في جبال اللاذقية، وإبراهيم هنانو في جبل الزاوية، وأحمد مريود في الجولان، وحسن الخرّاط في الغوطة، وسلطان باشا الأطرش الذي قاد الثورة السورية الكبرى، وغيرهم من المجاهدين الميامين الذين سطروا ملاحم بطولية وقدّموا مثالاً يقتدى به في المقاومة والدفاع عن الوطن والذود عن حياضه وتقديم كل غالٍ ونفيسٍ في سبيل عزّة الوطن وحريته.

وفي هذا السياق من النضال في سبيل التحرير والاستقلال، يجب أن لا يغيب عن بالنا دور حزبنا العظيم حزب البعث العربي الاشتراكي في مرحلة البدايات حيث خاض أول معاركه على الساحة السياسية الوطنية عندما جابه الاحتلال الفرنسي مع القوى والتيارات السياسية والشعبية الأخرى حتى تحقيق الاستقلال، وقد وضع لنفسه أهدافاً سعى لتحقيقها محلياً تمثلت في المطالبة بالاستقلال الوطني التام، والكفاح من أجل إنجاز الجلاء العسكري ورفض الارتباط بأية معاهدات أو مواثيق مع الدول الاستعمارية، وإقامة نظام دستوري وديمقراطي حر. ولذلك لا عجب أن أُعلن عن تأسيس الحزب في غمرة احتفالات شعبنا في سورية بمرور سنة على جلاء القوات المستعمرة عن أرضها، فكان ذلك بحق من أعظم إنجازات الجلاء.

لقد أصحبت سورية بفضل الجلاء الحارس الأمين على قضايا الأمة العربية وحقوقها، والمحرك والناظم لحركة التحرر القومي العربي، والداعم لفصائل حركات التحرر الوطني العربية في مختلف الأقطار العربية في الجزائر والعراق وفلسطين، وأضحت أرضها منطلقاً للنضال القومي التقدمي والتحرري بوقوفها إلى جانب الثورة الجزائرية عام 1954، وتأييد الشعب العربي الفلسطيني في نضاله ضدّ الكيان الذي غُرس في قلب الوطن العربي عام 1948، وبوقوفها ضدّ الأحلاف وانتصارها على المؤامرات الاستعمارية وتلاقيها مع ثورة تموز في مصر ليتوّج نضال القطرين بإقامة أول وحدة عربية في العصر الحديث عام 1958، ومنها إلى انتصار ثورة 8 آذار 1963 على الانفصاليين، مروراً بانتصار تشرين التصحيح عام 1970، وتشرين التحرير عام 1973، بقيادة القائد الخالد حافظ الأٍسد، وصولاً إلى انتصار 25 أيار ودحر الاحتلال الصهيوني في جنوبي لبنان، ثم هزيمة مشروعه التقسيمي للوطن العربي ما يسمى بـ “الشرق الأوسط الجديد” بعد انتصار تموز عام 2006، وصمود غزة.

كل ذلك جعل من سورية هدفاً للمخططات الاستعمارية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها “إسرائيل” بالتواطؤ مع بعض الأنظمة العربية، إذ تعرّضت سورية وما زالت تتعرّض حتى هذا اليوم إلى سلسلة من الضغوط والمؤامرات من أجل النيل من عزيمتها وصمودها وإضعاف مواقفها الوطنية والقومية الداعمة للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وتقليص دورها الريادي في تفعيل العمل العربي المشترك، ودعم قضايا الأمة، ولكن شعبنا أثبت من خلال تمسّكه بوحدته الوطنية والتفافه حول قيادة السيد الرئيس بشار الأسد أنه قادر على إحباط جميع المؤامرات وتجاوز المحن مهما اشتدت وطأتها، مستمراً في مسيرته لإنجاز الجلاء الأكبر بتحرير كل شبر من أرضنا العربية المحتلة.