اليد الخفية في السودان
علي اليوسف
لا تنشأ الصراعات العسكرية من فراغ، بل تمرّ بمراحل مختلفة من التوتر والتصعيد، لتنفجر بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وخاصةً إذا كان هذا الصراع نتيجة إذكاء وتحريض خارجي. ولعل الاقتتال الدائر اليوم في السودان ليس إلا أنموذجاً آخر من لعب الأيادي الخفية في هذا البلد الذي مزّقته الحروب، ومزّقته الحالة الاقتصادية والإنسانية المتردّية.
منذ أن قاد عبد الفتاح البرهان الانقلاب على الرئيس السابق عمر حسن البشير، لجأ إلى تعزيز قوة مستقلة عن الجيش. وبالفعل، قام بدفع قوات التدخل السريع، التي لها تاريخ دموي، إلى الساحات العامة لقتل المعتصمين احتجاجاً على الانقلاب، معتقداً أنهم لن ينقضّوا عليه لتحصيل ثمن خدماتهم.
خلال مرحلة الحكم الانتقالي، واصل صديقه اللدود، محمد حمدان دقلو (حميدتي) مع قيادات الكيان الإسرائيلي لإظهار ولائه لهذا الكيان، وعرض الخدمات التي يستطيع تقديمها إليه. حينها أيقن البرهان أن ثمن تلك الخدمات لن يكون أقلّ من كرسي الحكم بعد اختطافه من أصحابه المدنيين، ولهذا سلك الطريق ذاته باتجاه الكيان الإسرائيلي، على أمل الطعن بصديقه اللدود ومليشياته، ومساعدته على تثبيت شرعيته في الحكم مقابل تطبيع علاقات بلاده معها، وتسويقه في المجتمع الدولي.
حتى ساعة الاقتتال، من غير المعروف ما إذا كان قادة الكيان الصهيوني قد فضّلوا البرهان أم حميدتي الذي يسيطر على ذهب البلاد الذي يغري الإسرائيليين. لكن ما هو معروف، بل مؤكد، أن لهم الدور واليد الطولى في هذا الاقتتال لتغليب طرف على آخر، ناهيك عن الدور العلني للولايات المتحدة التي تحاول قطع الطريق على الصين التي تنافسها في الساحة الأفريقية.
لقد كانت حجّة الاقتتال على السلطة هي الاتفاق الإطاري الذي وقّعه العسكريون والمدنيون في 5 كانون الأول الماضي، والذي ينصّ في أحد بنوده على دمج قوات الدعم السريع في الجيش، كمقدّمة لتكوين سلطة مدنية من دون مشاركة العسكريين الذين نصّ الاتفاق على عودتهم إلى ثكناتهم.
ومن هنا، وجد الجنرالان في الجداول الزمنية فرصة لافتعال الخلاف لمنع تحقيق ما يترتّب على اتفاق الحلّ النهائي الذي سيعيدهما إلى ثكناتهما، ويجعلهما يأتمران بأوامر حكومة مدنية، ووزراء مدنيين. ومن يراجع معطيات ما بعد خلع البشير، يتأكّد لديه أن الصراع هو على السلطة بامتياز، وأن الخلاف تم افتعاله لمنع تحقيق ما يترتّب على اتفاق الحل النهائي الذي كان سيُوقَّع بداية شهر نيسان الحالي.