رأيصحيفة البعث

في بعض ملامح غدٍ قريب

أحمد حسن

بالتأكيد لا أهمية عسكرية كبيرة لقرار انسحاب القوات الدنماركية المحتلة من سورية، لأن مشاركة هذه الدولة فيما سمّي “التحالف الدولي” كانت رمزيّة بالحجم، وتابعة بالقرار، دون أن يعني ذلك براءتها، أو تبرئتها، مع سواها من دم السوريين.

بيد أن هذا الانسحاب الذي ردّته وزارة الدفاع الدنماركية إلى أولوية “مواجهة التهديدات على حدودنا”، و”انخفاض عدد الإرهابيين من داعـش لدرجة أنه لا توجد حاجة ماسة لمساهمتنا”، يعني الكثير في السياسة، فهو يذهب، بمضمونه وتوقيته، إلى أبعد من الدلالة المباشرة على “بدء انهيار التحالف الذي ادّعت واشنطن إنشاءه لمحاربة داعش” -وخاصة أن في الأفق ما يشير إلى سير دول أخرى على خُطا الدانمارك – ليرتقي إلى كونه دليلاً آخر على حقيقة تسارع مسيرة ترتيب العالم، والمنطقة ضمنه، على أسس جديدة تُصنع مرتكزاتها خارج “معامل الثينك تانك” الأمريكية – وإن كانت تحت أنظارها العاجزة – لأول مرة منذ عقود طويلة.

هنا، وكما في كل حالة مماثلة، تبرز ظاهرة لافتة، ولكنها طبيعية بمعنى ما، وهي ذلك الانقسام الحادّ بين من يرى أن ما يحدث – سواء في سورية أم بقية أنحاء العالم – هو خطوات مخطّط أمريكي كامل ومدروس لإشغال العالم بالحروب والمشكلات والتفرّغ لحربها القادمة مع بكين، وبين من يبشّر – نتيجة ما يحدث – بنهاية سريعة لسيطرة واشنطن على العالم.

والحق أن القراءة الواقعية في السياسة توضح “ضلال” الطرفين معاً، فإذا كان القول الأول يصدر ممن اعتاد العيش تحت الوصاية الأمريكية، وبالتالي لا يعرف ولا يعترف بإمكانية بروز “نظام” دولي جديد باعتباره “سنّة” التاريخ المعتادة، فإن الثاني يغفل عن حقيقة بسيطة مفادها أن واشنطن لم تُهزم بالكامل، وأن غاية الأمر – حتى الآن وفي المستقبل المنظور أيضاً – أنها تتجه كي تصبح واحدة بين متساوين، أو الأولى في “عالم متشظٍّ” يفقد فيه الغرب سيطرته الكاملة على بقية العالم، بعد أن كانت، في النظام الذي نودّعه، الأعظم من الجميع، وهي في موقعها الجديد هذا لا تستطيع أن تفرض كل ما تريد كما في السابق لكنها تستطيع أن تمانع، وتمنع في أحيان كثيرة، كل ما لا تريد وإن كان بدرجة أقل من السابق، وهذا نذير خطر أكثر ممّا هو مؤشر طمأنة.

هنا، أيضاً، نفهم موقفها من التحوّلات العربية الأخيرة تجاه سورية، والذي نستطيع قراءته، كالعادة، من مواقف بعض “دول الدور” – أي الدول الوظيفية – التي ما زالت ترفض بشدة، أو تسعى بدأب منقطع النظير، لوضع العراقيل في طريق ترتيب العلاقات العربية – العربية استجابة لرغبة واشنطن التي لا تُمسك بالخيوط كاملة. وإذا كان موقف هذه “الدول” مفهوماً لأسباب أخرى أيضاً، منها ارتباطها العضوي بالفريق الإرهابي الخاسر في الحرب السورية، ومنها قناعتها، المحقّة، بأنها ستعود إلى حجمها الطبيعي، الصغير، بعد ترتيب هذه العلاقات، فإن موقف فريق آخر من “الدول” الحقيقية محزن جداً، ليس لدمشق التي حدّدت سلفاً، ومنذ زمن بعيد، أولوياتها واتجاهاتها، بل لجهل هذه “الدول” بأسس أمنها القومي وعبثها بها لقاء “فتات” سياسي ومالي أثبتت أحداث العقد الماضي أنه يُدفع لها بالقطارة كي تبقى بحاجة “للكفيل” بما لا يسمح لها بالعودة إلى مكانها ومكانتها السابقة.

خلاصة القول، هذه مرحلة “سيولة” سياسية لافتة، وبالتالي سوف نشهد فيها مواقف متضاربة ومتغيّرة بتسارع مذهل، فبينما سيتابع البعض سلوك “الطريق الجديد”، وسيحاول بعضٌ ثانٍ تقديم نفسه على أنه “أم الصبي”، والداعي إليه منذ زمن كيلا يجد نفسه “مرميّاً” تحت عجلات القطار المنطلق نحو دمشق، سيستمر البعض الثالث بالعرقلة عبر ضخّ بعض الأوكسجين في شرايين “فصائل” و”ائتلافات” لإحيائها بهدف القول للأمريكي إننا “الدولة الأولى بالرعاية”، لكن الزمن يتغيّر وقد لا يجد هذا “البعض” وقتاً حتى ليقول، ولو بينه وبين نفسه، “ولات ساعة مندم”.