مجلة البعث الأسبوعية

ناس ومطارح.. ماهر خداج: عن الحياة والموت، بعيدا قريبا من “طاحون الحلاوة”

تمام بركات

ككل الناس فرح بالحياة التي فتح عيناه عليها، أحب أشعة الشمس المنحدرة من خد السماء، على ربا وسفوح “طاحون الحلاوة” قريته النابتة مثل “خال” في سهل الغاب، ركض بين كرومها بساقين تسابقان الريح، غنى مواويلها المنقوعة بمياه بنات الكروم، كبر ونما في أسرة، علمته في مطلع كل يوم، أن الحياة فعل مقدس، فعرف هذا بالطريقة الأصعب والأقسى ربما، لكن دون أن تصيبه هذه “المعرفة” بالندم، كحال الشاعر الذي قال: “ما حاجتي للمعرفة” فماهر خداج-33 سنة- نزلت نار المعرفة المحرقة لطبائع الحياة، برداً وسلاماً على كبده، رغم أنها أفقدته الحركة، وأجلسته على كرسي متحرك.

عام 2008 ذهب ماهر إلى الخدمة العسكرية، لا أفكار مسبقة لديه عن هذا العالم، خصوصاً وأن عليه أن يغادر البيت والأهل، إلى خارج حدوده الأليفة، ولأول مرة في حياته، ينام ماهر خارج سريره، وبعيداً عن غرفة والدته العجوز، التي وهبته الحياة مرات ومرات، وبعد أقل من 3 أعوام، على هذه الهجرة القريبة لأخر العنقود، كان على ماهر أن يختبر مالا يختبره إلا الرجال الأشداء، بل وقلة منهم، ليس لمرة أو لمرتين، بل لتسع مرات، دون أن تجعله صعوبة الاختبار وقسوته، يفكر لو مرة واحدة بأنه اكتفى!

العلاقة العظيمة التي نشأت بين الفتى وقريته وجيرانه، أحلامه المزروعة في حواكير وبساتين “طاحون الحلاوة” مهوى القلب ومطار خفته، نظرت إليه كلها مرة واحدة من المرآة، وأخبرته عندما راحت نُذر الحرب تتجمع في السماء، بإن: “دوما/ بابا عمرو/ الحجر الأسود/ التل/ عدرا/ بيت سحم/ يبرود/ فليطة/ السحل/ حرستا/ خناصر/ دير الزور/هي كلها وباقي الجغرافية السورية، مهده العظيم، بيته، قريته، فأخبرها فعلاً لا قولاً، أنها أيضاً قد تكون لحده، وليصدق الرجل ما وعد القلب والفؤاد، فتلك المناطق شربت تربتها من دمائه، وفيها ترك بعضاً عزيزاً من جسده وروحه، قبل أن يعود إلى قريته بعد 10 سنوات، راجياً أن يكون كما ربته وعلمته وانتظرت منه.

يتذكر ماهر بكثير من الامتنان الذي لا يعرف أي حد، خيال والدته العجوز، تنهض من خلف الموت بسنيها الثمانين، تمسكه من رقبته، هي التي وهن العظم منها، واشتعل الرأس شيباً، وتطرحه أرضاً، في حال حاول أن يقترب من ابنها، الراقد منذ أكثر من عام، في المشفى بإصابة خطيرة، وهي الأخيرة عام 2018، والتي كانت سبب فقدانه الحركة، يتذكر ماهر، كيف كان وجهها يعكس كل الصور والأماكن والأشخاص الذين أحبهم: شريط طفولته الهانئة، وجه والده المتوفي، روحا أخويه “صلاح/ مهران” اللذين استشهدا في الحرب، ورفاقه الذين يذكرهم بكثير من الحزن والفخر: “علاء عجيب/رافع الشلي/يائل خضر/ مطيع إسماعيل، علي حمودة/بسام محمد” يرى فيما يرى النائم، بيته في عمق سهول عيناها، خبز تنورها ورائحته البخور، أشجار طفولته، قريته ووجه لحبيبة صارت أقرب إليه.

يدرك الخارج من قبضة الموت، أن الحياة ليست فعلاً روتينياً يومياً، يقوم على الصدفة الطبيعية، بل هي ابتكار لحظي، فريد وشخصي، لكل ما يعطي هذا الفعل المقدس قيمته، ولأن ماهر يعرف جيداً هذا، فتح بيته وشرع مساكن قلبه، لأخوته الذين تضرروا من الزلزال، الذي ضرب البلاد، ووقف وأمه وزوجته بكل رضا، على ما يحتاجه ضيوفه الكرام، من غذاء ودواء وأغطية وغيرها، وعملوا بلا توقف لتحقيق هذا، يقول ماهر: “هذا أقل الواجب” ولو طلبوا روحه لقدمها، والرجل لا يبالغ في هذا، ومن لديه شك في ذلك، فلينظر إلى خريطة الجراح المرسومة بالبارود على جسده.

يعمل اليوم ماهر الذي لا تفارق الضحكة محياه، والحمد على كل حال، لسانه وقلبه، في مشروعه الخاص لتربية المواشي، بعد أن حصل على الشهادة الثانوية، وهو يتابع دراسته في الجامعة الافتراضية، ويريد أن يصبح زميلاً في العمل الإعلامي.