آخر معايير بريجنسكي للتراجع الحقيقي.. صعود الصين يُجلس قادة واشنطن على الخطوط الجانبية الدبلوماسية والاقتصادية
البعث الاسبوعية- عناية ناصر
حاولت أمريكا المسلحة بقوة عسكرية واقتصادية غير عادية، بعد النهوض من رماد الحرب العالمية الثانية، أن تحكم العالم حيث أدرك قادة الحرب الأمريكية، جورج مارشال في واشنطن، ودوايت دي أيزنهاور في أوروبا، وتشيستر نيميتز في المحيط الهادئ خلال أربع سنوات من القتال ضد قادة المحور في برلين وطوكيو والتي اندلعت في جميع أنحاء العالم، أن هدفهم الاستراتيجي الرئيسي كان السيطرة على مساحة اليابسة الشاسعة في أوراسيا.
على الرغم من أن هذا الماضي يبدو بعيداً، إلا أنه لا يزال يشكل العالم الذي نعيش فيه، فالجغرافيا السياسية التي مارسوها بمثل هذه التكلفة لا تزال لها آثار عميقة. فكما حاولت واشنطن تطويق أوراسيا لكسب حرب كبرى وهيمنة عالمية، تشارك بكين الآن في أعمال عسكرية انتقامية أقل بكثير لبلوغ هذا الامتداد للقوة العالمية. حيث تبدو مكاسب الصين هذه الأيام خسارة لأمريكا، فكل خطوة تتخذها بكين لتعزيز تواجدها في أوراسيا فإنها تضعف في الوقت نفسه من وجود واشنطن في تلك القارة الاستراتيجية، وبالتالي تُضعف قوتها العالمية التي كانت هائلة ذات يوم.
استراتيجية الحرب الباردة
في عام 1948 أطلق وزير الخارجية جورج مارشال خطة مارشال بقيمة 13 مليار دولار لإعادة بناء أوروبا الغربية التي مزقتها الحرب، ووضع الأسس الاقتصادية لتشكيل حلف الناتو بعد عام واحد فقط. بعد انتقال مماثل من مقر الحلفاء في زمن الحرب في لندن إلى البيت الأبيض في عام 1953، ساعد الرئيس دوايت أيزنهاور في إكمال سلسلة من المعاقل العسكرية على طول ساحل أوراسيا على المحيط الهادئ من خلال توقيع سلسلة من اتفاقيات الأمن المتبادل مع كوريا الجنوبية في عام 1953، وتايوان في عام 1954 ، واليابان في عام 1960. وعلى مدار السبعين عاماً التالية، كانت سلسلة الجزر تلك بمثابة المفصل الاستراتيجي لقوة واشنطن العالمية، وهو أمر حاسم للدفاع عن أمريكا الشمالية والهيمنة على أوراسيا.
بعد القتال للاستيلاء على جزء كبير من تلك القارة الشاسعة خلال الحرب العالمية الثانية، حاول قادة أمريكا بعد الحرب الدفاع عن مكاسبهم. ولتقييد القوى الشيوعية داخل تلك القارة، طوقت الولايات المتحدة 6000 ميل بـ 800 قاعدة عسكرية، وآلاف من المقاتلات النفاثة، وثلاثة أساطيل بحرية ضخمة كالأسطول السادس في المحيط الأطلسي، والأسطول السابع في المحيط الهندي والمحيط الهادئ، و إلى حد ما في وقت لاحق، الأسطول الخامس في الخليج.
اكتسبت تلك الاستراتيجية اسم “الاحتواء” بفضل الدبلوماسي جورج كينان، حيث يمكن من خلالها لواشنطن أن تجلس وتنتظر بينما تنهار الكتلة الصينية السوفيتية من خلال خطأ دبلوماسي ومغامرة عسكرية. في تلك اللحظة من الانتصار الظاهري مع بقاء القوة العظمى الوحيدة على كوكب الأرض، استغرق جيل الشباب من قادة السياسة الخارجية لواشنطن، المدربين ليس في ساحات القتال ولكن في مراكز الأبحاث ، أكثر من عقد للسماح لتلك القوة العالمية غير المسبوقة بأن تتبدد.
قرب نهاية حقبة الحرب الباردة في عام 1989، حصل فرانسيس فوكوياما، الأكاديمي الذي يعمل في وحدة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية،على شهرة فورية في واشنطن بعبارته المثيرة “نهاية التاريخ”. وجادل بأن النظام العالمي الليبرالي في أمريكا سيكتسح قريباً البشرية جمعاء في مد لا نهاية له من الديمقراطية الرأسمالية. القوى الخفية للجغرافيا السياسية
عكس الأكاديمي زبيغنيو بريجنسكي وسط مثل هذا الخطاب ما تعلمه عن الجغرافيا السياسية خلال الحرب الباردة كمستشار لرئيسين، جيمي كارتر ورونالد ريغان، ففي كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” لعام 1997، قدم بريجنسكي أول دراسة أمريكية جادة للجغرافيا السياسية منذ أكثر من نصف قرن. و حذر في هذه العملية، من أن عمق الهيمنة الأمريكية العالمية، حتى في ذروة القوة أحادية القطب هذه، كانت بطبيعتها “ضحلة”. وأضاف أنه بالنسبة للولايات المتحدة وكل قوة عظمى على مدى السنوات الخمسمائة الماضية، كانت أوراسيا، التي تضم 75٪ من سكان العالم وإنتاجيته، دائماً “الجائزة الجيوسياسية الرئيسية”. ومن أجل إدامة “هيمنتها على القارة الأوراسية وبالتالي الحفاظ على قوتها العالمية.
وفي جدال حول مركزية أوراسيا المستمرة بعد الحرب الباردة، اعتمد بريجنسكي بشكل كبير على عمل الأكاديمي البريطاني المنسي منذ زمن طويل، السير هالفورد ماكيندر. في مقال نشر في عام 1904 أثار الدراسة الحديثة للجغرافيا السياسية، لاحظ ماكيندر أنه على مدار الـ 500 عام الماضية، هيمنت القوى الإمبريالية الأوروبية على أوراسيا من البحر، لكن بناء خطوط السكك الحديدية العابرة للقارات كان يحول مركز السيطرة إلى داخلها الشاسع” هارتلاند”. في عام 1919، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، جادل أيضاً بأن أوراسيا، إلى جانب إفريقيا، شكلا “جزيرة عالمية” ضخمة وقدم هذه الصيغة الجيوبوليتيكية الجريئة: “من يحكم هارتلاند يأمر الجزيرة العالمية، ومن يحكم جزيرة العالم يحكم العالم”.
من الواضح أن ماكيندر كان سابقاً لأوانه بحوالي 100 عام في تنبؤاته. ولكن اليوم، من خلال الجمع بين النظرية الجيوسياسية لماكيندر وبريق بريجنسكي للسياسة العالمية، من الممكن أن نتبين في حالة الارتباك السائد في هذه اللحظة.
مناورة الصين الجيوسياسية
تمثل سياسة الصين نحو أوراسيا في العقود التي تلت نهاية الحرب الباردة، تغييراً جوهرياً في الجغرافيا السياسية لتلك القارة، واقتناعاً منها بأن بكين ستلعب اللعبة العالمية وفقاً لقواعد الولايات المتحدة، ارتكبت مؤسسة السياسة الخارجية لواشنطن خطأ في التقدير الاستراتيجي الكبير في عام 2001 من وجهة نظرها بقبول بكين في منظمة التجارة العالمية. اعترف عضوان سابقان في إدارة أوباما بالقول: “عبر الطيف الأيديولوجي، نحن في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية، نشارك في الاعتقاد الأساسي بأن قوة الولايات المتحدة وهيمنتها يمكن أن تصوغ الصين بسهولة حسب رغبة الولايات المتحدة … لقد كانت جميع جوانب نقاش السياسة خاطئة”.
بعد أكثر من عقد بقليل على انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، نمت صادرات بكين السنوية إلى الولايات المتحدة بما يقرب من خمسة أضعاف، وارتفعت احتياطياتها من العملات الأجنبية من 200 مليار دولار فقط إلى 4 تريليونات دولار غير مسبوقة بحلول عام 2013. وفي عام 2013، وبالاعتماد على تلك الاحتياطيات النقدية الهائلة، أطلق الرئيس الصيني ، شي جين بينغ، مبادرة بنية تحتية بقيمة تريليون دولار لتحويل أوراسيا إلى سوق موحدة. عندما بدأت شبكة فولاذية من القضبان، وخطوط أنابيب البترول في عبور القارة، حاصرت الصين جزيرة العالم الثلاثية القارية بسلسلة من 40 ميناءاً تجارياً من سريلانكا في المحيط الهندي، حول الساحل الأفريقي، إلى أوروبا من بيرايوس في اليونان، إلى هامبورغ في ألمانيا. وبإطلاق ما أصبح أكبر مشروع تطوير في التاريخ، بحجم 10 أضعاف حجم خطة مارشال، يعمل الرئيس الصيني على تعزيز سياسة بكين الجيوسياسية نحو أوراسيا ، بينما يحقق خوف بريجنسكي من صعود “كيان واحد حازم” في آسيا الوسطى.
على عكس الولايات المتحدة، لم تبذل الصين جهوداً كبيرة في إنشاء قواعد عسكرية، وبينما لا تزال واشنطن تحتفظ بنحو 750 منها في 80 دولة، إلا أنه لدى بكين لديها قاعدة عسكرية واحدة فقط في جيبوتي على ساحل شرق إفريقيا، وهي نقطة اعتراض للإشارات في جزر كوكو في ميانمار في خليج البنغال .
علاوة على ذلك، بينما كانت بكين تركز على بناء البنية التحتية الأوروبية الآسيوية ، كانت واشنطن تخوض حربين كارثيتين في أفغانستان والعراق في محاولة غير كفؤة من الناحية الاستراتيجية للسيطرة على الشرق الأوسط واحتياطياته النفطية. في المقابل، ركزت بكين على التراكم البطيء والخفي للاستثمارات والنفوذ عبر أوراسيا من بحر الصين الجنوبي إلى بحر الشمال. من خلال تغيير الجغرافيا السياسية الأساسية للقارة من خلال هذا التكامل التجاري، فإنها تفوز بمستوى من السيطرة لم يسبق له مثيل في الألف سنة الماضية، بينما تطلق العنان لقوى قوية من أجل التغيير السياسي.
تحولات كبرى تهز القوة الأمريكية
بعد عقد من التوسع الاقتصادي المستمر لبكين عبر أوراسيا، بدأت التحولات الكبرى في الركيزة الجيوسياسية لتلك القارة في الظهور في سلسلة من التغييرات الدبلوماسية ، وكل منها يمحو جانباً آخر من نفوذ الولايات المتحدة. قد تبدو الأربع الأحدث منها ، للوهلة الأولى، غير ذات صلة ولكنها مدفوعة بقوة للتغيير الجيوسياسي الذي لا هوادة فيه. حيث جاء أولاً الانهيار المفاجئ وغير المتوقع للموقف الأمريكي في أفغانستان، مما أجبر واشنطن على إنهاء احتلالها الذي دام 20 عاماً في آب عام 2021 بانسحاب مذل. وفي لعبة ضغوط جيوسياسية بطيئة وخفية، وقعت بكين اتفاقيات تطوير ضخمة مع جميع دول آسيا الوسطى المحيطة، تاركة القوات الأمريكية معزولة هناك. ولتوفير دعم جوي حاسم للمشاة، غالباً ما تُجبر المقاتلات النفاثة الأمريكية على الطيران لمسافة 2000 ميل من أقرب قاعدة لها في الخليج، وهو وضع غير مستدام على المدى الطويل وغير آمن للقوات على الأرض. ومع انهيار الجيش الأفغاني الذي دربته الولايات المتحدة وتوغل مقاتلو طالبان في كابول على متن عربات “همفي”، أصبح التراجع الفوضوي للولايات المتحدة في الهزيمة أمراً لا مفر منه.
وبعد ستة أشهر فقط في شباط 2022، حشد الرئيس فلاديمير بوتين أسطولًا من المركبات المدرعة المحملة بـ 200 ألف جندي على الحدود الأوكرانية في عملية عسكرية خاصة لتقويض نفوذ الناتو وإضعاف التحالف الغربي، وهو أحد شروط بريجنسكي لطرد الولايات المتحدة من أوراسيا.
وكان الرئيس بوتين قد زار بكين وأصدر إعلاناً مشتركاً بأن العلاقات بين البلدين كانت” متفوقة على التحالفات السياسية والعسكرية في حقبة الحرب الباردة “واستنكاراً” للتوسع الإضافي لحلف شمال الأطلسي”.
و في مواجهة للعزلة الدبلوماسية والحظر التجاري الأوروبي، حولت موسكو الكثير من صادراتها إلى الصين، وسرعان ما أدى ذلك إلى رفع التجارة الثنائية بنسبة 30٪ إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق. بعد ذلك، في شهر آذار الماضي، وجدت واشنطن نفسها مهمشة دبلوماسياً بعد توقيع صفقة بنية تحتية بقيمة 400 مليار دولار مع إيران، وجعل السعودية أكبر مورد نفطي لها ، وكانت بكين في وضع جيد للتوسط في تقارب دبلوماسي كبير بين الخصمين الإقليميين. وفي غضون أسابيع، أبرم وزيرا خارجية البلدين اتفاقية المصالحة بزيارة إلى بكين.
وكانت آخر الصدمات التي تعرضت لها إدارة بايدن في شهر نيسان الماضي عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بكين لإجراء سلسلة من المحادثات المباشرة مع الرئيس الصيني شي. وفي ختام تلك الرحلة الاستثنائية، التي أكسبت الشركات الفرنسية المليارات في العقود المربحة، أعلن ماكرون عن “شراكة استراتيجية عالمية مع الصين”، وتعهد بأنه لن “يأخذ أية إرشادات وتوجيهات من الأجندة الأمريكية” فيما يتعلق بتايوان. وسرعان ما أصدر المتحدث باسم قصر الإليزيه توضيحاً مبدئياً مفاده أن “الولايات المتحدة هي حليفنا، بقيم مشتركة”. ومع ذلك، عكس إعلان ماكرون في بكين رؤيته طويلة المدى للاتحاد الأوروبي كلاعب استراتيجي مستقل والعلاقات الاقتصادية الوثيقة لتلك الكتلة مع الصين.
مستقبل القوة الجيوسياسية
وبتوقع مثل هذه الاتجاهات السياسية بعد عقد من الزمن في المستقبل، فإن مصير تايوان يبدو، في أحسن الأحوال، غير مؤكد. بدلاً من “الصدمة والرعب” من القصف الجوي، وهو الأسلوب الافتراضي لواشنطن في الخطاب الدبلوماسي في هذا القرن، تفضل بكين الضغط الجيوسياسي الخفي والمتواصل في عملية تجنب لأية مواجهة فيما يتعلق ببحر الصين الجنوبي .
تجدر الإشارة إلى أن بكين بنت قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية الهائلة خلال أكثر من عقد بقليل، وفي حال استمرت قوتها في الزيادة داخل الركيزة الجيوسياسية لأوراسيا حتى بجزء بسيط من تلك الوتيرة السريعة لعقد آخر، فقد تكون قادرة على تنفيذ ضغط جيوسياسي بارع في تايوان مثل ذلك الذي أخرج الولايات المتحدة من أفغانستان. سواء كان ذلك بسبب الحظر الجمركي، أو الدوريات البحرية المستمرة، أو أي شكل آخر من أشكال الضغط، فقد تقع تايوان بهدوء في قبضة بكين.
إذا سادت مثل هذه المناورة الجيوسياسية، فإن الحدود الإستراتيجية للولايات المتحدة على طول ساحل المحيط الهادئ سوف تنكسر، وربما تدفع قواتها البحرية إلى “سلسلة جزر ثانية” من اليابان إلى غوام، آخر معايير بريجنسكي للتراجع الحقيقي لقوة الولايات المتحدة العالمية. وعند هذه الحالة، يمكن لقادة واشنطن أن يجدوا أنفسهم مرة أخرى جالسين على الخطوط الجانبية الدبلوماسية والاقتصادية التي يضرب بها المثل، متسائلين كيف حدث كل هذا؟.