مجلة البعث الأسبوعية

بين المؤرخ والروائي

سلوى عباس

العلاقة بين التاريخ والرواية علاقة معقدة، فالتاريخ خزان كما الحياة المعاصرة خزان، والرواية تسبر أغوار التاريخ تحت إلحاح الأسئلة التي يولدها الحاضر والمستقبل، وإذا نظرنا إلى الحروب والتصدعات والانهيارات الكبرى التي عاشها عالمنا العربي، نرى أن هذه الانهيارات ولّدت السؤال لدى الجميع حول السبب في ما يجري، لكن الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى دراسة التاريخ في عمقه البعيد، وهذه العودة للتاريخ تشرح الفرق بين الرواية التاريخية والرواية التي تقوم على حدث ما، وهنا يحضرني قول لأحد الروائيين السوريين مفاده: “إذا أراد المؤرخ أن يكون روائياً فسوف يفشل، وإذا أراد الروائي أن يكون مؤرخاً فسوف يفشل، لكن الرواية يمكن أن تأخذ إما شخصية أو حادثة، أو ظرف معين، وبالتالي تشيد بناء فيه من الوثيقة الكثير ومن التخييل الكثير، لكن يبقى شيء آخر للرواية غير الاشتغال على التاريخ والجغرافيا هو الحفر في الراهن، بعضهم يسميه الشهادة على الحاضر، وهنا أيضا يوجد أفخاخ وألغام تنتظر الكتابة الروائية، إذ ربما تتحول هذه الكتابة إلى اللهاث خلف الراهن والعابر ولا تتعمق بأعماق اللحظة المعاشة، وفي الحالتين تتلمس الرواية النبض العميق للتاريخ وللراهن، فإذا استطاعت التعبير عن هذا النبض وتجسيده بأحداث وشخصيات وطروحات بلغة مختلفة كان هذا جيداً، وإلا ستكون عبارة عن قناع تاريخي وصورة باهتة تفضلها الكاميرات الحديثة”. وقد عرّف جورج لوكاتش الرواية التاريخية بأنها “نافذة أخرى تفتح على فن الرواية، هي رواية تاريخية حقيقية، وعمل فنّي يتخذ من التاريخ مادة له، ولكنّها لا تنقل التاريخ بحرفيته، بقدر ما تصوّر رؤية الفنّان له وتوظيفه لهذه الرؤية للتعبير عن تجربة من تجاربه، أو موقف من مجتمعه يتخذ من التاريخ ذريعة له”. ومن هنا نرى كلاً من المؤرخ والروائي يخوض مهمته بين الكتب والروايات التاريخية، لكن السؤال من منهما أقدر على إفهامنا التاريخ؟ وهل تختلف مهمة كل منهما؟ وكيف؟

تتعدد الإجابة على هذه التساؤلات فهناك من يرى أن الفارق بين عمل الروائي وعمل المؤرخ يكمن في جانب أساسي وهو الجانب الإنساني والمشاعر والقلق الذي يمر به بطل الرواية، بينما المؤرخ يتحدث عن الظروف والوقائع والنتائج السياسية استناداً إلى وثائق هي في متناول مؤرخين آخرين.

وإذا كان المؤرّخ يحدّد لنا إطار الواقعة وزمنها، وأعداد الفاعلين فيها ومصائرهم في خطّ زمني تعاقبي، وفقاً لمنظوره الخاص، فكاتب الرواية التاريخيّة يحيي هؤلاء، ويعيد استحضار الزمان ويعيد بناء المكان وتأثيثه بمزاجه وخياله وذاتيّته. ويدخلنا إلى روح الشخصيات ومعاناتهم، وعلاقتهم بالآخرين ومشاعرهم ووجههم الوجداني الذي غاب عن المؤرخ.

من جانب آخر لكل من الراوي والمؤرخ طريقته وأسلوبه في الكتابة، فهما يسيران إلى هدف واحد وهو نقل المعرفة وتحفيز مدارك الإنسان على القراءة والتفاعل معها، فالرواية تبتكر عالمها وتصوغ شخصياتها والأحداث التي تشكل عوالم هذه الشخصيات، فيما يسعى المؤرخ إلى سرد أحداث التاريخ وتركيبها وصياغة نسق تفسيري لهذه الأحداث، بحيث يبدو التاريخ متناغماً ومنطقياً ومقنعاً لدارسيه والراغبين في التعرف إلى أشكال سير الحياة وطرق عيش البشر في الأزمنة السالفة، وظاهراً يبدو كل من عالمي الروائي والمؤرخ متفارقين لا يلتقيان، لأن الروائي يصنع مادته، فيما يعمل الثاني على توليف مادته وجمع تفاصيل عالمه من أفواه الرواة وصحائف الكتب، فالأول مبتدع للعوالم والشخصيات والأحداث والخيالات، أما الثاني فهو معنيّ باستعادة العوالم والشخصيات والأحداث والفضاءات التاريخية من غياهب النسيان، ومن هذا المنظور تكون غاية الرواية هي تحقيق المتعة والإدهاش في الوقت الذي يهدف التاريخ إلى الوصول إلى «الحقيقة التاريخية”.